في التاسع من يونيو، انطلقت قافلة الصمود — بعثة من شمال إفريقيا تجاوز قوامها ألفي ناشط — تعبر ليبيا برًّا صوب مصر، عازمة على كسر الحصار الصهيوني عن غزة وإيصال المعونات. وفي موازاة ذلك، حطّت أفواج من الأجانب في مطار القاهرة ينوون المسير نحو معبر رفح ضمن المسيرة العالمية إلى غزة. أعلن كثير من نشطاء مصر دعمهم للمبادرة، مختارين الابتعاد عن المشاركة درءًا لما قد تجلبه مشاركتهم من بطش الأمن على رؤوس المشاركين.
لكن كلا القافلتين لم تمضِ بعيداً.
انقضّ النظام المصري ببطشه المعهود: شنّ حملة تشويه إعلامي نعتت المنظمين بالجاسوسية والعمالة، وزعمت سعيهم للإضرار بمصر والتخريب وتهديد الأمن الداخلي. أعقب ذلك المنع من الدخول، والاعتقال، والمداهمات، والضرب، والترحيل، وجحافل من البلطجية. انساقت جموع من المصريين خلف تلك الدعاية، بل انضم إلى هذا الاصطفاف المحموم المتزايد مع النظام عددٌ غير قليل ممن يزعمون انتسابهم إلى صفوف المعارضة ويتشدقون في الملأ بانحيازاتها.
عاد سؤالان يدوّيان من جديد: لِمَ تُصرّ مصر الرسمية، الجار العربي الأقرب إلى غزة، على خنوعٍ مطلق لمحتليها؟ ولِمَ لا يثور المصريون؟
لم يكن السؤالان جديدان، بل ترددا طَوال العشرين شهرًا من إبادة الاحتلال للفلسطينيين في غزة. وكان الجواب الأسرع إلى الألسنة دومًا: الخوف. غير أنّي أراه، وإن حضر طاغيًا، ليس جوهر العلّة. إنّما هو عرَض لجذر أعمق، وأكثر رعبًا.
منذ توقيع كامب ديفيد، طبّعت مصر رسميًا علاقتها بالاحتلال الإسرائيلي، لكن نبض فلسطين ظلّ يخفق في شوارعها. حتى في عهد مبارك، أُبقيت فسحات محدودة من التضامن المراقب لامتصاص الغضب الشعبي: مظاهرات محدودة كلما أمطر الاحتلال غزة نارًا، تجمعات مرصودة في النقابات وساحات الجامعات، وقوافل كُتب لها النفاذ من بين فكّي القمع.
جاءت ثورة يناير ٢٠١١ فكسرت الطوق لحظة، ومنحت المصريين طيفًا عابرًا من الحرية قبل أن يُسحق تحت سنابك العسكر. منذ انقلاب ٢٠١٣، عصف البطش بالجميع بتوحش لم تعرفه البلاد من قبل، فأُغلقت حتى النوافذ الضيقة التي كانت فلسطين تتسلل منها إلى وجدان المصريين.
لفهم مصر اليوم، لا بد من التوقف عند هذا المفصل: يحكمنا نظام عسكري يسكنه هاجس لا يغادره، هو شبح الخامس والعشرين من يناير. ثورةٌ شقّت المعادلة المصرية، فانقلبت فيها الآية بين السيد والمقهور، وتركت في جسد النظام ندبة لم تلتئم، تؤرّقه ذكراها فيلوّح بها في كل سانحة، أو حتى بلا سانحة.
يحرّك النظام اليوم هوس بالحيلولة دون تكرار الشروط التي أنجبت تلك اللحظة. إذعانه الفجّ للاحتلال الإسرائيلي ليس عقيدة، بل صفقة نجاة. معارضته القوية للتهجير في ملف غزة ليست صحوة ضمير، بل غريزة بقاء. صمته لا ينبع من ولاء للصهيونية كفكرة، ولا هيجانه العارض يعكس موقفًا أخلاقيًا. كل ما يصدر عنه، مهما بدا متناقضًا، مفهوم كتجلٍ لهدف أوحد: أن يستمر.
أرفض أن أخلع على هذا التواطؤ أي مسحة من شرف أخلاقي—خيرًا كان أم شرًّا—توهم بوجود مبدأ أعلى أو قناعة فكرية. فلا عقيدة هنا ولا رؤية، بل منظومة أمنية باردة لا تُحرّكها إلا غريزة البقاء، تخشى شعبها أكثر مما تخشى أعداءها.
منذ اللحظة الأولى، اندفع النظام في سباق مسعور نحو هدفه الأوحد: استئصال كل احتمال للتمرّد. أبادت مذابح ما بعد ٢٠١٣ مبدأ التجمعات تحت أي مسمى، ثم فكّك النظام المجتمع المدني، ووأد النقابات المستقلة، ومَحا الأحزاب من الوجود.
اليوم، تغص الزنازين بما لا يقل عن ستين ألف سجين سياسي. تجاوز الآلاف منهم عقدًا من أعمارهم خلف الجدران لمجرد احتجاج عابر أو منشور على شاشة. قضى المئات نحبهم تحت سياط التعذيب، أو في ظلمة الإهمال الطبي، أو اختناقًا في زنازين ضاقت بأرواحهم. ابتلعت ظلمات الإخفاء القسري أكثر من اثني عشر ألفًا. يُعاد تدوير من يُخلى سبيلهم في دوّامات لا تنتهي من القضايا المفبركة.
حتى التظاهر لقضية تتسق ظاهريًا مع الموقف الرسمي محظور إن لم يأتِ بإذعان كامل لرعاية الدولة وسقفها المحدد سلفًا. فمنذ أكتوبر ٢٠٢٣، يُحتجز نحو ١٥٩ شخصًا على خلفية احتجاجهم على مجازر الاحتلال في غزة.
في مصر، يكفي أن تمس الوحش، فيبتلعك. وأحيانًا، يبتلعك دون أن تمسه.
ولم يقف القمع عند حصر الفعل، بل امتدّ إلى صياغة الإنسان ذاته. أنشأ النظام مؤسسات شائهة كـ”الأكاديمية الوطنية للتدريب”، مصانع تُعيد تشكيل الوعي ليتواءم مع مقاييس السلطان: مواطنٌ مطيع، منزوع السؤال والإرادة. صار الإعلام صوتاً أحادياً لا ينازع، أُخمدت فيه الأصوات المستقلة، وزُجّ بالصحافيين في غياهب المعتقلات. اختُزلت الفنون والآداب والسينما إلى مشاريع دعائية تحت إشراف الدولة لتعزيز “الوطنية.”
غرقت البلاد في دوّامات الدين والجوع، وسُحقت ما بقي من طبقتها الوسطى. لم تُهزم الثورة فحسب، بل نُحِرت، وبُقِر جوفها، وسُدّ ��راغها بتمثيلية لشبه دولة. صار النظام مقامراً لا يراهن ليربح، بل فقط ليُبقي كرسيه على رقعة الطاولة، ولو احترق كل شيء من حوله.
حين يهبط سقف المسموح حتى يدنو تحت التراب الذي تجرّ عليه قدميك لتقتنص لقمة العيش كل صباح، يترك ذلك في النفس شرخًا لا يلتئم. ومع مرور الزمن، يتماهى صوت الرقيب المزروع فيك، حتى لا تعود تميّز بين صوته وصوتك.
نعم، الخوف حاضر. يجمد العروق، ويكبل الأفعال، ويصيب اللسان بالخرس. لكنه ليس سوى القشرة الظاهرة، أما العطب الكامن الذي نجح كل ما عددته في تحقيقه، فهو اليقين باللا جدوى.
تسرى اللا جدوى في أوصال المصريين اليوم، لا في الخائفين فقط، بل حتى في أصلبهم عوداً وأكثرهم فداءً، في الذين سالت دماؤهم على أسفلت القاهرة، وازدحمت بهم الزنازين، وتناوبت عليهم القضبان والعزلة. أعرف هذا السُّم القاتل، فقد تجرّعته ستة أعوام كاملة خلف أسوار السجن في سؤال ينهشني كل ليل: لأية غاية أُضحّي؟ فيمَ تصب كل هذه الخسارات؟
شيّد النظام أدواته ومشانقه بما يضمن أن تؤول كل تضحية إلى الفراغ. يخنق الحركات قبل أن تنبض، ويمحو الأفراد قبل أن يجترئوا على تخيّل أنفسهم رموزاً. يغمر الفضاء العام بدعاية كثيفة تمحو حتى الظلال الباهتة لانتفاضة مضت، كأنها لم تكن. يخلق عزلة محكمة تسكن الصدور، عزلة تُقنع كل من تسوّل له نفسه التفكير أنه وحده، أن لا أحد غيره يئن تحت هذا الثقل. فتتحوّل البلاد إلى جزر صامتة متباعدة، لا يدري أحد عن الآخر شيئاً. وحين يلوح في الأفق طيف اختراق لهذه العزلة، يبادر النظام إلى سحقه بالسيف والنار.
تغدو التضحية في هذا السياق لا شرارة توقظ، ولا ميراثًا يُروى. لا من جنس تلك التضحية التي تخلّد صاحبها في دفاتر التاريخ، كما فعل البوعزيزي حين أضرم النار في جسده فأشعل شعبًا، أو كما صنع آرون بوشنل حين قدّم جسده قربانًا ليُجبر العالم على النظر في وجه الوحشية الأمريكية المتواطئة في إبادة غزة.
في مصر، الكلفة مطلقة، والعائد عدم. فناء بلا جدوى.
وما يعنينا هنا أنّ هذه اللا جدوى لم تنبع من طبيعة الأشياء، ولا كانت قدراً مفروضاً من عالم الغيب، بل صُنعَت صُنعًا. يتجلّى مشهدنا الراهن في المعركة التي يخوضها النظام ضد الأم السبعينية، ليلى سويف، وقد تجاوز إضرابها عن الطعام مئتي يوم، حتى ذوى جسدها وخسرت نصف وزنها، تطالب بحرية ابنها، علاء عبد الفتاح، المحتجز ظلمًا بعد انقضاء محكوميته. يشدّنا جميعًا هول الصورة، وتلطمنا عبثيّة تمسّك النظام بتحطيم امرأة عجوز بكل هذا الإصرار، وإمعانه في تجاهلها. غير أنّ سلوك النظام لا شذوذ فيه، بل ينسجم انسجامًا تامًّا مع خطه العام. فإن رأى الناس ليلى تهز أركان النظام ولو هزة، فما الرسالة التي قد تصلهم؟ أن ثمّة، لا قدّر الله، جدوى؟
ذاك هو أهم ما أنجزه نظامنا العسكري: أن يغرس عبثية المحاولة في أعماق الوعي الجمعي المصري. كثيرًا ما يُشبَّه الاستبداد بقدرٍ يغلي تحت غطاء القمع محكم الإغلاق، لكن مصر اليوم ليست قدراً يغلي بانتظار من يزيح الغطاء. مصر، اليوم، رئةٌ مثقوبة، لا هواءَ يلامس جدرانها، ولا شهيق منها يرجى.
أيُّ حديثٍ عن ثورةٍ، أو دعوةٍ إلى الناس للخروج إليها، يغدو لغوًا في مهبّ الريح، ما لم يُسبق بمعركةٍ لا بديل عنها: معركة تفكيك ماكينة اللا جدوى. تلك هي المواجهة الأصل. مواجهة شاقة، عسيرة، إذ لم يتشكّل هذا العبث صدفة، بل استُزرع في أعماق النفوس حتى يستعصي اجتثاثه إلا بثمنٍ من النزف. لكن لن ينهض حراك ولا يستقيم ما لم نفلح أولًا في إعادة المعنى إلى الفداء ومنح التضحية مصبًا تنسكب فيه من جديد.
لذا، وإن بدا مغريًا أن نردّ كل الأصوات المصرية الرافضة لقافلة الصمود والمسيرة إلى غزة وغيرها من ألوان المبادرات لفعل شيء، أي شيء، إلى جيوش الذباب الإلكتروني وأبواق النظام وأتباعه — وكثير منها كذلك — فإن طيفًا لا يستهان به من المصريين يبتلع سردية السلطة لا عن قناعة، بل فرارًا من مواجهة أنقاض الذات. فابتلاع الكذب، وتجرّع نظريات المؤامرة الرسمية، أيسر على النفس في كثير من الأحيان من التحديق في المرآة، ورؤية الخراب الذي آلت إليه نفسك. وذلك، في جوهره، من تمام الهزيمة.
ومع ذلك، وتحت ركام الخوف وسُخام اللا جدوى، يظلّ ارتباط المصريين بفلسطين أعمق من غضب عابر أو حماسة طارئة. هو جرح غائر في الذاكرة، موصول النبض بجراحهم، تاريخٌ مشتركٌ من الانكسار والعناد. في عام ٢٠١١، حين ثار المصريون لهدم الاستبداد، كانت فلسطين في القلب من ثورتهم. ارتفعت أعلامها في ميادين التحرير، واخترقت هتافاتها عنان السماء. تسلّق شاب جدار سفارة الاحتلال في القاهرة، وانتزع علم العدوّ، ورفع علم مصر، لتشتعل الجماهير من تحته وهي تحرق ذلك العلم، وكأنما تحرق معه عارها المفروض. في ٢٠١٢، انفتح معبر رفح، وسارت القوافل المصرية إلى غزة لتقف كتفًا بكتف مع أهلها، كما لو أنّ النهر قد عاد إلى مجراه الطبيعي بعد طول احتباس.
لا تزال أرواح مئات الآلاف من المصريين — الجرحى، المثخنين بالحسرات — ترتعش كلما لاحت أمامهم جذوة مقاومة، لا سيّما حين تكون فلسطين وقودها. لا نعلم إن كان طريق القدس يمر عبر القاهرة، أم أن طريق القاهرة يمر عبر القدس، لكنّ ما نعلمه يقينًا أنّ المصير واحد، والخلاص مشترك.
يدرك النظام المصري ذلك حق الإدراك. يعلم كم هي واهنة قبضته على شعب ذاق يومًا الثورة. ولهذا يهاب شعبه أكثر مما يهاب خصومه، ويرتجف من شرارةٍ قد تنقدح في صدر مصري يسمع صراخ إخوته التونسيين.
ففي نهاية المطاف، صرخة كتلك أشعلت الشرارة الأولى ذات صباحٍ أحمر من يناير ٢٠١١.