موانئ مصر بيد منافسها: كيف تمددت الإمارات من السخنة إلى بورسعيد؟

التوسع الإماراتي داخل المنطقة الاقتصادية لقناة السويس يسلّط الضوء على إشكالية جوهرية تتعلّق بإمكانية تضارب المصالح بين مشروع تطوير قناة السويس، وموقع ميناء جبل علي الإماراتي، الذي يُعد منافسًا طبيعيًا لها.
Picture of زاوية ثالثة

زاوية ثالثة

في مطلع مايو الجاري، أعلنت الحكومة المصرية توقيع اتفاق مع هيئة موانئ دبي يمنحها حق انتفاع طويل الأجل بعدد من المناطق داخل النطاق الحيوي للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس. وجاء الاتفاق، بحسب ما أعلنته القاهرة، ضمن ما وصفته بـ”توسيع الشراكات الاستراتيجية مع دول الخليج”. ووفق المعلومات المعلنة، يتضمن الاتفاق تطوير مناطق صناعية ولوجستية، إلى جانب تولي إدارة وتشغيل بعض الموانئ الواقعة ضمن الامتداد الجنوبي للقناة، وذلك بنظام حق انتفاع مدته 50 عامًا قابلة للتجديد، مقابل حصول الهيئة الإماراتية على 15% من إجمالي إيرادات المشروع.

وخلال السنوات الأخيرة، شهد الوجود الإماراتي في قطاع الموانئ المصرية توسعًا لافتًا عبر استثمارات مباشرة وشراكات تشغيلية طويلة الأجل. وتشمل هذه الاستثمارات حاليًا ستة موانئ من أصل ستة عشر ميناءً تجاريًا مدنيًا تمتلكها الدولة المصرية. ولم يقتصر النشاط الإماراتي على تشغيل محطات الحاويات، بل امتد إلى الاستحواذ على شركات محلية تعمل في مجالات الشحن الإقليمي والخدمات اللوجستية وأعمال الشحن والتفريغ. كما وقّعت جهات إماراتية اتفاقات امتياز طويلة الأجل لتطوير وتشغيل مرافق مخصصة للسفن السياحية في عدد من موانئ البحر الأحمر، من بينها: سفاجا، والغردقة، والعين السخنة، وشرم الشيخ، وهو ما يعكس اتساع نطاق النفوذ الذي باتت تحوزه أبوظبي في قطاع النقل البحري المصري.

وتعد “موانئ دبي” إحدى أبرز الجهات الإماراتية التي رسّخت وجودها في هذا القطاع، لا سيما عبر إدارتها لمحطة الحاويات في ميناء العين السخنة، إحدى نقاط الارتكاز الاستراتيجية جنوب قناة السويس، حيث تمتلك 90% من حقوق الامتياز التشغيلي للمحطة، في واحد من أكبر استثماراتها خارج دولة الإمارات. إلى جانب ذلك، وسّعت شركات إماراتية أخرى نطاق وجودها من خلال اتفاقات لتطوير وإدارة مناطق لوجستية وصناعية مرتبطة بموانئ مثل الأدبية وشرق بورسعيد، بينما تجري مفاوضات متقدمة حول الاستثمار في ميناء العريش وموانئ أخرى على ساحل البحر المتوسط. وتأتي هذه التحركات بالتوازي مع توجه نحو الاستثمار في الموانئ الجافة والمراكز اللوجستية الداخلية، ما يضع أبوظبي في موقع شبه مهيمن على منظومة الشحن البحري والخدمات اللوجستية في مناطق استراتيجية داخل مصر.

ورغم الترحيب الرسمي المتكرر بالاستثمارات الخليجية، يثير هذا التوسع المتسارع تساؤلات متزايدة بشأن طبيعة التوازن بين الشراكة الاقتصادية والتأثير الجيوسياسي، خصوصًا في ظل الأهمية الاستراتيجية لبعض هذه الموانئ، التي لا تقتصر على البعد التجاري، بل تمثل جزءًا من منظومة الأمن القومي المصري وممرات التجارة الدولية الحيوية.

نوصي للقراءة: نزيف الهيئات الاقتصادية المصرية: الحكومة تدعم الخسائر وتُهمِل الإصلاح

هل تتعارض استثمارات الإمارات بقناة السويس مع مصالحها الاستراتيجية؟

يثير توسع الدور الإماراتي داخل المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، تساؤلات حول طبيعة العلاقة بين مشروع تطوير القناة من جهة، واستراتيجية تعزيز مكانة جبل علي من جهة أخرى، فالممر الملاحي المصري يُعد منافسًا مباشرًا للميناء الإماراتي، سواء على مستوى حركة الشحن أو استقطاب الاستثمارات اللوجستية، ويصعب، من الناحية الاقتصادية، فصل المصالح بين الطرفين إذا لم يكن هناك تضارب بين.

وتروج الإمارات لميناء جبل علي في دبي، كأحد أبرز الموانئ التجارية في منطقة الشرق الأوسط، وتقول إنه يمثل محورًا حيويًا في سلاسل الإمداد العالمية، وللمفارقة تديره “موانئ دبي العالمية”، وهي الشركة ذاتها الحاصلة على حق انتفاع لتطوير منطقة قناة السويس الاقتصادية، وعلى مدى سنوات، عملت الإمارات على ترسيخ موقع جبل علي بوصفه بوابة عبور للبضائع بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، مستفيدة من موقعها الجغرافي والبنية التحتية المتقدمة وسياسات الحوافز الاقتصادية.

تتضاعف المخاوف من أن يؤدي منح الإمارات حق تطوير أو تشغيل مناطق رئيسية بمنطقة القناة الاقتصادية إلى تباطؤ متعمد في تطوير بعض المرافق، أو إعادة توجيه تدفقات البضائع نحو الموانئ الخليجية، إذ تُعرف “موانئ دبي” باستراتيجيتها القائمة على تشغيل موانئ متعددة حول العالم، بما يضمن توزيع السيطرة على طرق التجارة البحرية، وتنسيق مسارات الشحن بما يتماشى مع مصالحها. ذلك ما ألمحت إليه أستاذة الاقتصاد عالية المهدي، قائلة: ” لا أستطيع تقبّل فكرة دخول الإمارات في مشروع ضخم داخل المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، وذلك لسببين رئيسيين: أولًا، لأن هذا التوجه يبدو متناقضًا مع مصلحة الإمارات نفسها، إذ إن تطوير قناة السويس كمركز لوجستي وتجاري عالمي قد ينعكس سلبًا على ميناء جبل علي، الذي يُعد من أهم الموانئ الاستراتيجية لدبي، ومن غير المنطقي أن تسهم الإمارات في تقوية منافس مباشر لمي��ائها الأهم.

وتتبنى الإمارات منذ سنوات مشروعًا يعرف باسم “الممر الهندي ـ الأوروبي”، ينطلق من مدينة مومباي بالهند مرورًا بالإمارات، ثم إلى السعودية فالأردن، وصولًا إلى ميناء حيفا على الساحل الفلسطيني المحتل، قبل أن يعبر البحر المتوسط نحو أوروبا، ويُنظر إلى هذا الممر، المدعوم أميركيًا، باعتباره أحد البدائل الاستراتيجية لقناة السويس، خاصة في ظل أزمات الملاحة العالمية والبحث عن مسارات أكثر أمانًا وأقل كلفة.

وتوضح علياء المهدي في منشور عبر صفحتها: “ثانيًا، الإمارات تُعد من أبرز الداعمين لمشروع الممر التجاري البديل الذي يبدأ من مدينة مومباي في الهند، مرورًا بالإمارات، ثم السعودية، فالأردن، وصولًا إلى إسرائيل، ومنها إلى أوروبا. وهو ممر مصمم ليكون بديلاً استراتيجيًا لقناة السويس، ما يثير الشكوك حول دوافع الإمارات الحقيقية في الاستثمار بمحور القناة. بكل صراحة، لا أثق في النوايا الإماراتية في هذا الملف.”

 

نوصي للقراءة: المراجعة الخامسة لصندوق النقد: أصول الدولة للبيع.. والفقراء أول الضحايا


جدل حول الاستحواذ الإماراتي على الأصول المصرية

من جهته ينتقد -الخبير الاقتصادي، رئيس مجلس أمناء حزب التحالف الشعبي الاشتراكي- زهدي الشامي في حديث إلى زاوية ثالثة ما وصفه بـ”الاختراق الإماراتي المتصاعد” للقطاعات الاقتصادية الحيوية في مصر، معتبرًا أن الحكومة المصرية تمضي قدمًا في التفريط في مفاتيح الاقتصاد الوطني لصالح دولة الإمارات، عبر سلسلة من الاتفاقيات التي تطال قطاعات استراتيجية، على رأسها الموانئ وسلاسل الإمداد والتجارة.

ويقول الشامي، إن ما يحدث يُنذر بالخطر، إذ تسلك الحكومة مسارًا يتعارض مع المصالح القومية، ويهدد الأمن الاقتصادي للبلاد، موضحًا: “هناك قطاعات اخترقتها الإمارات بشكل خطير، من بينها القطاع الصحي والدوائي، وهي قطاعات تمس السيادة الاقتصادية المصرية”، مضيفًا أن الخطر الأكبر يتمثل في ملف الموانئ وخطوط التجارة وسلاسل الإمداد، حيث بات واضحًا حجم التوغل الإماراتي في هذه المنظومة، مشيرًا إلى وجود تضارب مصالح مباشر بين البلدين، خاصة مع سعي مصر لتطوير منطقة قناة السويس كمركز لوجستي عالمي، في الوقت الذي تملك فيه الإمارات ميناء جبل علي وتسعى لتعزيز مكانته كمنافس إقليمي.

ويتساءل الشامي خلال حديثه معنا: “كيف نسلم لهم الممر الذي من المفترض أن يكون نقطة قوتنا؟ بدلًا من تطوير ممرنا الخاص، نجد أنفسنا نتنازل عن هذه المشروعات الاستراتيجية لصالح منافس مباشر، وهو أمر يفتقد للمنطق ويثير القلق”. مشيرًا إلى غياب الشفافية في العقود التي وُقعت، خاصة أن الحديث الرسمي اقتصر على “مذكرة تفاهم”، دون إعلان تفاصيل الاتفاقات المالية أو نسب الإيرادات أو فترات التعاقد، موضحًا أن بعض العقود تمتد إلى 50 عامًا، في حين تُخصص إيرادات 15 عامًا مقدّمًا دون وضوح في آليات التحصيل أو التوزيع، فضلًا عن كونه مبلغ هزلي.

ويقول الشامي إن هناك تجربة سابقة مع الإمارات في ميناء العين السخنة لم تحقق أي نتائج إيجابية، مشيرًا إلى أن “المنافس حين يستحوذ على أصل استراتيجي، فإن من مصلحته تعطيل نموه لا تطويره”، ويضيف: “رئيس الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس تحدث عن اتفاق جديد، لكنه لم يوضح شيئًا، ولا نعلم ما الذي سنربحه، أو إذا كنا سنربح أصلًا”.

ويتابع السياسي والخبير الاقتصادي: “ما يجري الآن هو تسليم كامل للموانئ المصرية، كما تتردد أنباء حول ميناء الإسكندرية في ضوء صفقات مشابهة، وبالتالي السؤال الآن: ما الذي سيتبقى لمصر من مصالحها الاستراتيجية؟”، مؤكدًا أن الحكومة تتنازل عن أصول الدولة لصالح أطراف خارجية، رغم علمها بأن هناك تعارضًا في المصالح الأمنية والاقتصادية.

ويربط الشامي بين ما يجري وبين التحركات الإقليمية، خصوصًا مشروع الممر الهندي -الخليجي- الأوروبي، الذي قال إنه “يستهدف قناة السويس ويصب في مصلحة إسرائيل، ويُعد امتدادًا لتحركات تهدد الأمن القومي المصري”. وأضاف: “هذا المشروع يقوّض دور قناة السويس، ويمنح إسرائيل والإمارات بدائل قد تُقصي مصر من خارطة التجارة العالمية”. منتقدًا صمت الحكومة، قائلاً: “نحن مذهولون.. من يدير الأمن القومي المصري؟ من يتخذ هذه القرارات؟ هل هناك مراجعة لما يجري؟”، مشددًا على أن ما يحدث لا يمكن فصله عن التزامات مصر تجاه صندوق النقد الدولي، الذي يفرض أجندة خصخصة الموانئ والمطارات، ويدفع نحو التفريط في الأصول العامة تحت مسمى “الإصلاح الاقتصادي”.

ويستشهد الشامي برفض الولايات المتحدة سابقًا استحواذ موانئ دبي على موانئ أمريكية، قائلاً: “إذا كانت أمريكا، بكل قوتها، رفضت، فكيف تقبل مصر، وهي في وضع اقتصادي حساس، تسليم مفاتيحها الاقتصادية للإمارات؟، داعيًا إلى محاسبة الحكومة، قائلاً: “هذه السلطة يجب أن تُقال وتُحاسب، لأنه لو كانت هناك مساءلة منذ سنوات، لما بلغنا هذه المرحلة من التراجع الاقتصادي والتفريط في السيادة”.

نوصي للقراءة: “الشحنة مرفوضة” مبيد الكلوربيريفوس يمنع المحاصيل المصرية من دخول أوروبا


غموض ومخاوف حول الأمن القومي المصري

في السياق، يقول طلعت خليل -المنسق العام للحركة المدنية وعضو المجلس الرئاسي لحزب المحافظين-، في تصريح إلى زاوية ثالثة إن الاتفاق المبرم بين المنطقة الاقتصادية لقناة السويس ودولة الإمارات يمنح الأخيرة حق انتفاع ضخمًا لمساحة كبيرة داخل المنطقة الصناعية الواقعة في شرق بورسعيد، مؤكدًا أن التفاصيل المتاحة تشير إلى خلل كبير في التوازن بين العائد المصري والمكاسب الإماراتية.

ويوضح خليل أن “المنطقة الاقتصادية لقناة السويس تمتلك مساحة تقارب 63 كيلومترًا مربعًا، مخصصة لإقامة منطقة صناعية، شرق بورسعيد، جرى تمهيد الأرض فيها وتوصيل المرافق العامة من جانب المنطقة الاقتصادية، وبكُلفة ضخمة تحمّلتها الدولة”. متابعًا: “سبق أن حصلت روسيا على نحو 5.2 كيلومتر مربع داخل هذه المنطقة، ضمن اتفاق وُقّع في عام 2021، لكننا فوجئنا بمنح الإمارات أكثر من 20 كيلومترًا مربعًا ضمن المنطقة نفسها دون إعلان واضح من الحكومة عن توقيت وحيثيات التخصيص”. مؤكدًا أن الاتفاق يمنح الإمارات “حق انتفاع لمدة 50 عامًا مقابل 15% فقط، وهي نسبة ضئيلة جدًا في لغة الاستثمار، ولا تعكس القيمة الحقيقية للموقع أو حجم التجهيزات التي نفذتها الدولة”، مضيفًا: “حين أوصلت الدولة المرافق العامة للمنطقة الصناعية، كان من المفترض أن يعود ذلك بعوائد حقيقية لصالح الاقتصاد المصري، لا أن تُسلَّم هذه المساحة مقابل نسبة هامشية ولمدة طويلة بهذا الشكل”.

و يعبر خليل عن تحفظه على الدور الإماراتي المتزايد في الاقتصاد المصري، قائلًا: “ليست مشكلتنا مع الاستثمار أو المستثمرين، لكن ما يجري الآن ليس استثمارًا طبيعيًا، بل استحواذًا على مفاصل رئيسية داخل الدولة، وهو أمر مقلق، ويتجاوز النطاق الاقتصادي ليمس الأمن القومي بشكل مباشر”. ويضيف: “الإمارات تستثمر اليوم في كل الاتجاهات داخل مصر، لكنها في الحقيقة تستحوذ على مشروعات ذات طابع استراتيجي. ما تقوم به لا يندرج ضمن منطق الاستثمار النقي، بل يدخل في إطار الهيمنة على مواقع حيوية، ومن شأن ذلك أن يُضعف القرار الوطني في المستقبل”. موضحًا أن “المنطقة التي تُمنح اليوم للإمارات هي منطقة حيوية جدًا، وتقع بشرق بورسعيد، وتمثل موقعًا استراتيجيًا لوجستيًا مهمًا سواء لأغراض صناعية أو تجارية أو تخزينية. هي منطقة يمكن أن تتحول إلى نقطة جذب للحاويات، وتُشكّل تهديدًا مباشرًا لأي مشروع بديل”.

ويحذّر خليل من أن “هذا التطوير يشبه إلى حد كبير نموذج منطقة جبل علي الإماراتية، وبالتالي يصعب تصديق أن الإمارات ستقبل بقيام مشروع منافس لمنطقتها الحرة الرئيسية. لذلك فالمسألة تثير الكثير من الشك والريبة، شأنها شأن أغلب المشاريع الإماراتية التي دخلت مصر في السنوات الأخيرة”. ويشدد بالقول: “نحن لسنا ضد الاستثمار ولا تطوير المناطق الصناعية، لكن لابد من مراعاة الاعتبارات المرتبطة بالأمن القومي، وأيضًا التفكير في التوازن الاستثماري الحقيقي. فـ15% لمدة 50 سنة رقم هزيل، ويجب ألا يُمرر هذا الاتفاق بهذه السهولة، لأنه يحمل في طياته ضررًا استراتيجيًا كبيرًا على المدى الطويل”.

الاتفاق، الذي وصفته الجهات الرسمية المصرية بأنه “يعكس الثقة الدولية في قدرات المنطقة الاقتصادية”، تضمن، وفق ما أعلن، إقامة منطقة صناعية متكاملة، تتضمن محطة متعددة الأغراض ومساحات تخزين، إلى جانب توفير خدمات شحن وتفريغ ومناولة، كما ينص على ضخ استثمارات تتجاوز نصف مليار دولار في مرحلته الأولى، مع وعود بتوفير آلاف فرص العمل وتعزيز حجم الصادرات. لكن خلف هذه البنود الإيجابية، برزت تساؤلات مقلقة بشأن عدة جوانب؛ أبرزها مدة التعاقد الطويلة (50 عامًا)، ونسبة الأرباح، وموقع المشروع في منطقة حساسة بالقرب من قناة السويس، الأمر الذي دفع بعض المراقبين لاعتباره خطوة قد تُفضي إلى نوع من “التحوّط الاستراتيجي” من جانب الإمارات، خاصة في ظل ارتباطاتها بمشاريع تجارية منافسة لقناة السويس.

الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية سارعت إلى توضيح أن المشروع “لا يؤثر على الممر الملاحي لقناة السويس ولا يمثل منافسًا له”، مؤكدة أن المشروع يقع على البحر المتوسط ولا علاقة له بالجزء الملاحي الرابط بين البحرين الأحمر والمتوسط، غير أن هذا التوضيح لم يُنهِ الجدل، لا سيما أن المشروع يأتي في سياق تحركات إماراتية أوسع تعكس اهتمامًا بامتلاك موطئ قدم دائم في مفاصل التجارة البحرية الإقليمية. ومن زاوية السيادة الاقتصادية، تساءل محللون حول مدى قدرة الدولة المصرية على فرض رقابة فعلية على الأنشطة التشغيلية والجمركية داخل هذه المنطقة، وما إذا كان الاتفاق سيعزز من تكامل قناة السويس أم يخلق محورًا تجاريًا موازٍ يصب في صالح أطراف إقليمية أخرى.

 


الإمارات والاستحواذ على الموانئ الأفريقية

تحوّلت الإمارات في العقد الأخير إلى فاعل رئيسي في ملف الموانئ بالقارة الأفريقية، عبر ذراعها اللوجستي الأقوى “موانئ دبي العالمية”، التي توسّعت في تشغيل وإدارة موانئ رئيسية على السواحل الشرقية والغربية لأفريقيا، فيما تزايدت الاتهامات بأنها لا تمارس استثمارًا تقليديًا، بل تسعى للهيمنة الاقتصادية، وبناء نفوذ جيوسياسي يشبه “الاحتكار” على الممرات البحرية الحساسة، وبين أبرز مثال على الانتقادات الموجهة لأبوظبي هو النزاع العلني مع جيبوتي، بعدما ألغت الأخيرة عام 2018 عقد امتياز شركة موانئ دبي لتشغيل محطة “دوراليه”، أحد أهم الموانئ في القرن الأفريقي.

قالت الحكومة الجيبوتية حينها إن العقد “غير عادل” ويهدد مصالحها الوطنية، متهمة الشركة الإماراتية بإعاقة تطوير الميناء والتسبب في خسائر اقتصادية، مما دفعها إلى تأميم المحطة، ورغم صدور أحكام تحكيم دولية لصالح الإمارات، أصرّت جيبوتي على موقفها، وبدأت تطوير الميناء بالشراكة مع الصين، معتبرة أن الاستثمارات الإماراتية كانت تسعى “للسيطرة لا للشراكة”.

وفي عام 2017، وقّعت موانئ دبي اتفاقًا مع إقليم “أرض الصومال” لتطوير وتشغيل ميناء بربرة لمدة 30 عامًا، في صفقة وصفها رئيس الإقليم بـ”التحوّل التاريخي”، لكن الحكومة الفيدرالية في مقديشو أعلنت رفضها للاتفاق، واعتبرته “انتهاكًا للسيادة الصومالية”، لأنه لم يتم بالتنسيق معها، مما زاد من تعقيد الوضع السياسي والأمني في البلاد. في كينيا، أثير جدل واسع حول صفقة محتملة لإدارة ميناء مومباسا، واضطرت الحكومة لنفي الأمر بعد احتجاجات شعبية اتهمت النخبة ببيع أصول البلاد في صفقات غير معلنة، وفي السنغال، واجهت “موانئ دبي” انتقادات من نقابات النقل البحري حول شروط التعاقد وعدم احترام قوانين العمل المحلي، وهو ما دفعها إلى تعديل بعض بنود الاتفاق لاحقًا.

خلال حرب اليمن، أشارت تقارير إلى استخدام الإمارات ميناء “عصب” في إريتريا كنقطة انطلاق لعملياتها العسكرية، بعد أن وقعت اتفاقًا مع أسمرة في 2015، ما أثار انتقادات دولية، خصوصًا من منظمات حقوقية، رأت أن الإمارات تحوّل البنية التحتية المدنية لأغراض أمنية تخدم سياساتها الإقليمية. وعمومًا تُتهم الإمارات باتباع استراتيجية ممنهجة لإقامة شبكة من الموانئ تمتد من خليج عدن إلى الساحل الغربي لأفريقيا، بحيث تمتلك القدرة على التحكم في تدفق السلع والنفط والسلع الأساسية إلى أوروبا وآسيا.

وأخيرًا.. تتجلى ملامح أزمة تتجاوز البُعد الاقتصادي لتلامس جوهر الأمن القومي والسيادة الوطنية المصرية فبينما تُروّج الحكومة لهذه الاتفاقيات مع الإمارات تحت شعار جذب الاستثمارات وتوسيع الشراكات، تزداد المخاوف من أن تكون هذه الصفقات غطاءً لإعادة توزيع النفوذ الاستراتيجي في واحد من أكثر المواقع حساسية في العالم، وهو محور قناة السويس، فالغموض الذي يلف تفاصيل العقود، وطبيعة المصالح المتضاربة بين الطرفين، فضلًا عن انعدام الشفافية والمساءلة، يجعل من الضروري طرح تساؤلات جوهرية حول من يضع أولويات الدولة الاقتصادية، ولصالح من تُدار هذه الملفات الحيوية؟

وعمومًا ما يحدث في منطقة قناة السويس لا يمكن فصله عن سياقات إقليمية أوسع تسعى لإعادة تشكيل مسارات التجارة العالمية على حساب الممر الملاحي المصري، بدعم من تحالفات جديدة لا تأخذ مصالح القاهرة في الحسبان، وإذا لم تتدارك الدولة المصرية هذه التحولات وتُعِدّ استراتيجية متكاملة قائمة على الشفافية، وحماية الأصول الوطنية، واستعادة زمام المبادرة، فإن خطر تفريغ قناة السويس من مكانتها، وتحويلها إلى مجرد نقطة عبور هامشية، سيصبح واقعًا لا مجرد هواجس.

Search