تجلس نجوى في شقتها بمدينة الزقازيق، لا تفارق عيناها شاشة التلفاز، حيث تتعقّب بقلق بالغ كل نقاش يدور حول قانون الإيجار القديم. لم تكن يومًا من المتابعين للشأن العام، لكن القانون الذي حافظ على استقرارها لعشرين عامًا، منذ طلاقها ولجوئها إلى شقة العائلة برفقة أطفالها، صار الآن مصدر تهديد صامت.
“بيقولوا هيعدّلوا القانون… طب وأنا؟ أروح فين؟”، تسأل نفسها بصوتٍ بالكاد يُسمع، فيما يتصاعد توترها مع كل خبر جديد. تكتفي اليوم بمعاش حكومي لا يكاد يغطي ضرورياتها، وتدرك أن مجرد التفكير في الانتقال، أو تدبير سكن بديل، يتجاوز قدرتها تمامًا.
منذ أسابيع، باتت التعديلات المقترحة لقانون الإيجار القديم شغلها الشاغل. وبينما ينتظر الملاك تعديلًا طال انتظاره لتحرير عقاراتهم، تخشى نجوى، كغيرها من ملايين المستأجرين، أن تتحوّل تلك التعديلات إلى بداية تشريد غير معلن، دون أن تقدم الدولة أي ضمان واضح لمن لا يملكون بدائل.
وسط الجدل المتصاعد حول تعديلات قانون الإيجار القديم، تتباين الآراء بين من يطالبون برد حقوق الملاك، وبين من يخشون أن تؤدي هذه التعديلات إلى الإضرار بملايين المستأجرين، خاصة أولئك الذين لا يملكون بديلاً. فبينما يرى العديد من الملاك أن القانون الحالي لم يعد منصفًا، بسبب تجميد القيمة الإيجارية على مدار سنوات طويلة- على حد قولهم، يحذر مستأجرون، مثل نجوى، من أن أي تعديل لا يراعي أوضاع الفئات الأكثر هشاشة قد يتحول إلى تهديد مباشر للاستقرار الاجتماعي.
يناقش مجلس النواب المصري حاليًا مشروع القانون الجديد بعد أن انتهت الحكومة من إعداد مسودته الرئيسية وقدمته للبرلمان، الذي أحاله إلى لجنة الإسكان لمناقشته داخل أروقة المجلس. وتدور حالة من الانقسامات الحادة بين النواب حول بعض بنود القانون، حيث يرى البعض أنها غير منطقية وتفتقر إلى البعد الاجتماعي والإنساني.
في هذا التحقيق، تواصلت زاوية ثالثة مع أكثر من 20 مواطنًا ومواطنة من الملاك والمستأجرين بخلاف الخبراء والمسؤولين، في محاولة لرصد مختلف الآراء والاتجاهات، وفهم الأسباب والدوافع التي تقف خلف مواقف كل طرف من أطراف النزاع.
مراحل تطور قانون الإيجار القديم في مصر
يُعد قانون الإيجار القديم، الذي ينظم العلاقة بين المالك والمستأجر رقم 136 لسنة 1981، من أكثر القوانين السكنية إثارة للجدل في مصر. فهو يمنح المستأجر حق البقاء في الوحدة السكنية مدى الحياة، مع امتداد العلاقة الإيجارية لأبنائه، مقابل قيمة إيجارية منخفضة لا تتماشى مع أسعار السوق الحالية، وقد تصل في بعض الحالات إلى أقل من 50 جنيهًا شهريًا. في المقابل، ارتفعت الإيجارات في السوق الحرة خلال السنوات الأخيرة إلى مستويات قياسية، حيث قد تتجاوز قيمة إيجار وحدة مماثلة 10,000 جنيه شهريًا في بعض الأحياء، ما دفع العديد من الملاك للمطالبة بتعديل القانون.
تاريخيًا، تعود جذور هذا النظام إلى بداية تدخل الدولة في سوق الإيجارات مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، حين واجهت البلاد أزمة سكنية حادة. وفي عام 1947، صدر قانون تثبيت الإيجارات لحماية المستأجرين من الغلاء والاحتكار، وتوالت بعده التشريعات التي عززت هذا الاتجاه، خصوصًا في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، الذي رسّخ فكرة الامتداد القانوني للعقود وتجميد القيمة الإيجارية.
في عام 1996، صدر قانون جديد لتحرير العلاقة الإيجارية بين المالك والمستأجر، لكنه لم يُطبق بأثر رجعي، مما أبقى على العقود القديمة تحت مظلة القوانين السابقة. وفي السنوات الأخيرة، عاد ملف الإيجار القديم إلى الواجهة، مدفوعًا بارتفاع تكاليف المعيشة وأسعار العقارات التي ارتفعت بشكل غير مسبوق، ومطالبات بعض الملاك بتعديل القانون بما يحقق ما يعتبرونه “عدالة مفقودة”. في المقابل، يرى المستأجرون أن هذا النظام يمثل شبكة أمان اجتماعية، خصوصًا للفئات محدودة الدخل التي لا تملك بدائل سكنية مناسبة، ويخشون أن يؤدي أي تعديل غير مدروس إلى الإضرار بحقهم في السكن.
وخلال السنوات الأخيرة بدأت الدولة خطوات محدودة في هذا الاتجاه، كان أبرزها إصدار قانون ينظم أوضاع الأماكن المؤجرة للأشخاص الاعتباريين، مع تحديد جدول زمني لتحرير العلاقة الإيجارية فيها. لكن الجدل لا يزال مستمرًا حول مستقبل السكن السكني الخاضع لقانون الإيجار القديم، وسط دعوات للحوار المجتمعي والتدرج في الإصلاح، بما يضمن تحقيق التوازن بين حقوق الطرفين.
نوصي بالقراءة: البناء المخالف يدخل دوامة المحاكم العسكرية
ملاك العقارات بين المؤيد والمعارض للقانون
يتشارك محمد الجمل، أحد الملاك في منطقة المطرية بشرق القاهرة، مشاعر القلق التي تعيشها نجوى، لكنه من موقع مختلف. إذ أنه مالكًا لعمارتين ورثهما عن والديه، ولا يخفي مخاوفه من أن تؤدي تعديلات قانون الإيجار القديم إلى الإضرار بشريحة واسعة من المستأجرين، خصوصًا أولئك القاطنين في الأحياء الشعبية، والذين يعتمدون على رواتب أو معاشات محدودة لا تواكب الارتفاع الحاد في تكاليف المعيشة.
يقول محمد إنه يأمل في أن تُمكّنه التعديلات من الاستفادة العادلة من ممتلكاته، لكنه في الوقت ذاته لا يريد أن تأتي هذه التعديلات على حساب الفئات الأكثر هشاشة، معتبرًا أن “تحقيق التوازن هو الحل”، وأن إنصاف الملاك لا يجب أن يعني بالضرورة ظلم المستأجرين.
أما إسلام جيكا، فيرى في تعديلات قانون الإيجار القديم بارقة أمل طال انتظارها، ويعتبرها فرصة ضرورية لإعادة التوازن إلى العلاقة بين المالك والمستأجر. تعود وجهة نظره إلى تجربة شخصية عايشها مع والدته، التي ورثت محلًا تجاريًا في سوق شعبي حيوي عن أسرتها، لكنها لم تتمكن من الاستفادة منه بشكل عادل بسبب تدني القيمة الإيجارية التي يدفعها المستأجر، ورفضه المستمر لأي محاولة للتفاوض.
يقول إسلام إن والدته حاولت التوصل إلى تسوية ودية مع المستأجر، وعرضت عليه مبلغًا ماليًا مناسبًا لمساعدته في الإخلاء، لكنه ردّ بعرض مقابل يفوق المبلغ المطروح، مصحوبًا بعبارة صادمة: “خديهم وانسي المحل”. بالنسبة لإسلام، عكست هذه الواقعة ما وصفه بـ”الاستقواء غير المقبول” من قبل بعض المستأجرين الذين يتعاملون مع الملكية وكأنها حق دائم، متجاهلين أن العلاقة الإيجارية في جوهرها مؤقتة وليست تمليكًا.
رغم ما يراه بعض الملاك من أن قانون الإيجار القديم ألحق ضررًا بمصالحهم على مدى عقود، إلا أن الدولة، في فترات سابقة، قدّمت عددًا من التسهيلات والحوافز لتشجيعهم على البناء والاستثمار العقاري، حتى في ظل تثبيت القيمة الإيجارية. فخلال الستينيات والسبعينيات، على سبيل المثال، حصل بعض الملاك على أراضٍ للبناء بأسعار رمزية أو بتسهيلات في السداد ضمن مشروعات سكنية حضرية، كما استفادوا من إعفاءات ضريبية على الوحدات المؤجرة، خصوصًا إذا كانت مخصصة للسكن. كذلك، تلقّى قطاع البناء دعمًا مباشرًا أو غير مباشر في أسعار مواد البناء الأساسية مثل الأسمنت والحديد، ما ساعد في تخفيف أعباء التكلفة الإجمالية للمباني في تلك الفترة.
بحسب التعداد السكاني لعام 2017، للجهاز المركزي للإحصاء بلغ إجمالي الوحدات السكنية المؤجرة بنظام الإيجار القديم 3 ملايين وأكثر من 19 ألف وحدة، ويبلغ عدد الأسر المقيمة في وحدات بنظام الإيجار القديم في مصر حوالي 1.642 مليون أسرة، ويُقدّر عدد الأفراد القاطنين فيها بأكثر من 6 ملايين شخص.
وبحسب الجهاز تتركز النسبة الأكبر من هذه الوحدات في أربع محافظات رئيسية، القاهرة، الجيزة، الإسكندرية،القليوبية، كما هو مبين بالشكل.
مقترح التعديلات تهديد للسلم المجتمعي
يصف الباحث الاقتصادي والسياسي زهدي الشامي عضو جبهة العدالة الإجتماعية، مشروع تعديل قانون الإيجار القديم بأنه “عبث صريح بالأمن الاجتماعي”، محذرًا من تمريره دون دراسة اجتماعية واقتصادية شاملة. ويؤكد الشامي أن المشروع المطروح يخالف أحكام المحكمة الدستورية والدستور المصري، ويحمل في طياته تهديدًا صريحًا للسلم المجتمعي، قائلاً: “القانون كما قُدم سيشعل فتنة داخلية بين ملايين المواطنين، ويقوّض استقرار فئات سكنية واقتصادية هشّة”.
ويشير الشامي في حديثه الخاص لزاوية ثالثة إلى أن الحكومة تسعى لإنهاء العلاقة الإيجارية خلال خمس سنوات فقط، دون توفير بدائل واقعية، معتبرًا ذلك “محاولة لتهجير المواطنين من مساكنهم، بمن فيهم كبار السن وأصحاب المعاشات الذين يعيشون وسط أزمة اقتصادية خانقة وتضخم غير مسبوق”.
ويضيف: “لا يمكن ببساطة إنهاء علاقة تخص مليون منشأة اقتصادية تعمل وتخدم المواطنين بأسعار مقبولة. من يتحمل فوضى كهذه؟ ومن يسيطر على الارتفاع الجنوني المتوقع في أسعار السلع والخدمات إذا طُبّق هذا القانون؟”.
وانتقد الشامي ما اعتبره “مغازلة لفئة من المستثمرين وأصحاب الأملاك الذين سبق أن حصلوا على مقابل مالي عند تأجير هذه الوحدات، بل واستفادوا من تسهيلات ودعم حكومي في البناء حينها”، مؤكدًا أن “الحكومة كان من الأولى بها أن تواجه الانفلات في سوق العقارات، حيث بلغت أسعار الشقق والإيجارات أرقامًا خيالية، بدلًا من التضييق على المواطنين البسطاء”.
في نوفمبر الماضي، حكمت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادتين الأولى والثانية في قانون الإيجار القديم الصادر في عام 1981، وقد تضمنت تلك المواد ثبات القيم الإيجارية السنوية للأماكن المرخص إقامتها لأغراض سكنية، ودعت مجلس النواب إلى تعديلها قبل انتهاء الفصل التشريعي الحالي، وقد استند الحكم إلى حيثيات تتمثل في أن “ثبات القيم الإيجارية عند لحظة من الزمان ثباتًا لا يزايله مضي عقود على التاريخ الذي تحددت فيه، ولا تؤثر فيه زيادة معدلات التضخم وانخفاض القوة الشرائية لقيمة الأجرة السنوية – يشكل عدوانًا على قيمة العدل وإهدارًا لحق الملكية”؛ حيث حدد القانون سقفًا لزيادة الإيجار السنوي عند 7% من قيمة الأرض عند الترخيص، والمباني طبقًا للتكلفة الفعلية وقت البناء.
من جهتها ترى إلهام عيداروس وكيل مؤسسي حزب العيش والحرية- تحت التأسيس وعضو جبهة العدالة الإجتماعية ، أن جوهر أزمة الإيجار القديم لا يكمن في الخلاف بين المستأجرين القدامى والملاك الأصليين، بل في سياسات الدولة التي تخلّت عن دورها التنظيمي، وتركت العلاقة بين الطرفين عرضة للتوتر لعقود طويلة، بعد أن ألغت لجنة تحديد الأجرة وأوقفت آليات التسعير العادل.
وتضيف عيداروس في حديثها الخاص لـزاوية ثالثة: “المشكلة الحقيقية بدأت مع دخول شركات ومقاولين إلى سوق العقارات، اشتروا العقارات القديمة بأسعار زهيدة في السنوات الأخيرة، وينتظرون لحظة تحرير العقود لتحقيق أرباح ضخمة. هؤلاء ليسوا ملاكًا قدماء ورثوا عقارات، بل مستثمرون جدد اشتروا وهم على دراية كاملة بوضع تلك الوحدات.”
وتشدد على أن أي تعديلات في القانون يجب أن تراعي عدم استفادة هؤلاء المستثمرين الجدد من أي زيادات في القيمة الإيجارية، مطالبة بقصر الاستفادة من أي تعديل على الملاك الأصليين أو ورثتهم فقط.
وتُعارض عيداروس أي مقترح يحدد فترة انتقالية لتحرير العلاقة الإيجارية، مستندة إلى أحكام المحكمة الدستورية العليا، التي قضت في 1997 بشأن العقود التجارية، وفي 2002 بشأن العقود السكنية، بأن الامتداد القانوني لعقود الإيجار لا يجوز إلا لجيل واحد فقط. وتوضح: “الإيجار القديم في طريقه الطبيعي للانتهاء تلقائيًا مع وفاة الجيل الثاني من المستأجرين، فلماذا العجلة؟ المحكمة الدستورية حصرت الامتداد القانوني في جيل واحد فقط، وبالتالي فإن العقود القديمة ستنقرض بمرور الوقت دون الحاجة لتعديلات مثيرة للجدل.”
وتقترح عيداروس رفع الأجرة وفق معيار قانوني ثابت وليس وفقًا لاعتبارات سوقية متقلبة، مؤكدة أن المستأجر لا يتحمل مسؤولية موقع العقار أو ارتفاع الأسعار الحالية. وتشير إلى تجربة “الجدول التجاري لعام 1997″، الذي اعتمد زيادات تدريجية بحسب الفئة الإيجارية.
كما تقترح عيداروس تقسيم العقارات إلى ثلاث فئات: الوحدات ذات الإيجار أقل من 20 جنيهًا: تُضاعف خمس مرات بحد أدنى 100 جنيه، ثم تُزاد بنسبة لا تتجاوز 5% سنويًا. والإيجارات بين 20 و100 جنيه: تُضاعف مرة واحدة فقط. أما الإيجارات فوق 100 جنيه: لا تُضاعف، وتُزاد بنسبة معقولة.
وتلفت عيداروس إلى أن هناك عبئًا متزايدًا على الملاك في ما يخص الصيانة والنظافة والترميم، مؤكدة أن أغلب المستأجرين يشاركون فعليًا في هذه المصاريف. وتدعو إلى تفعيل “اتحادات الشاغلين” بشكل رسمي، بما يسمح بتوزيع التكلفة بين المالك والمستأجر بشكل منظم، ويحول دون اضطرار المالك إلى بيع العقار للمستثمرين العقاريين.
وتشير وكيل مؤسسي حزب العيش والحرية، إلى وجود مسؤولية دستورية على الدولة تجاه حماية العقارات ذات الطابع المعماري المميز، لا سيما في مناطق مثل وسط البلد وبعض الأحياء التاريخية. وتقول إن الحفاظ على هذه العقارات لا يجب أن يكون مسؤولية فردية للمالك فقط، بل يجب أن يشمل دعمًا حكوميًا مباشرًا في ملف الترميم والصيانة، لحماية التراث العمراني من الضياع.
وفي ختام حديثها، تؤكد عيداروس أن المشكلة الكبرى ليست في نظام الإيجار القديم، بل في الانفلات “المسعور” في سوق العقارات والإيجارات الجديدة، حيث تحوّلت العقارات إلى وسيلة لتكديس الثروات وليس للاستقرار السكني. وتضيف”الدولة لا توفّر إسكانًا اجتماعيًا كافيًا، والوحدات التي تطرحها باهظة الثمن وفي أماكن نائية، مما يجعل الحديث عن بدائل سكنية للمستأجرين القدامى غير واقعي. إذا كانت الدولة تريد أن تُنهي أزمة الإيجار القديم، فعليها أولًا إصلاح سوق العقارات الجديد وتوفير سكن فعلي للشباب، لا الدفع بهم نحو التشريد.”
وفقًا لبيانات تعداد السكان والإسكان والظروف السكنية لعام 2017 الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن ما يقرب من ثلث الأسر التي تقيم في وحدات بالإيجار القديم -أي نحو 600 ألف أسرة- تدفع إيجارًا شهريًا يقل عن 50 جنيهًا. في حين تدفع 20% من الأسر، أي ما يعادل نحو 327 ألف أسرة، إيجارات تتراوح بين 50 و100 جنيه شهريًا.
أما الشريحة التي تسدد إيجارات شهرية تتراوح بين 100 و200 جنيه، فتُمثل نحو 19% من الأسر أو ما يقرب من 307 آلاف أسرة. بينما يُشكل الثلث المتبقي من الأسر شريحة واسعة تتراوح إيجاراتها بين 200 جنيه وتصل إلى أكثر من 900 جنيه شهريًا، بحسب المنطقة وحجم الوحدة السكنية، كما هو مبين بالشكل.
نوصي للقراءة: مصر: ظلال قاتمة لقانون الإيجار القديم
إعادة هيكلة الحيازة العقارية
يرى إبراهيم عز الدين مهندس تخطيط معماري والباحث في ملف الحق في السكن، أن المؤشرات الصادرة عن مشروع قانون الحكومة بشأن الإيجار القديم تنذر بأزمة وشيكة قد تطال طرفي العلاقة؛ الملاك والمستأجرين، دون أن يحقق أي منهما مكاسب حقيقية. فبدلًا من تقديم حل عادل ومتوازن، يلوح في الأفق سيناريو معقد قد تنتج عنه أضرار اجتماعية واقتصادية جسيمة.
ويوضح عز الدين لزاوية ثالثة أن اليوم، يقطن نحو مليون ونصف أسرة في وحدات خاضعة لقانون الإيجار القديم، مقابل مليون ونصف مالك يعانون من عدم قدرتهم على الانتفاع الكامل بممتلكاتهم. هذه ليست مسؤولية الأفراد، بل نتاج تركة تشريعية قديمة فرضتها الدولة لعقود، ولا تزال تبعاتها قائمة دون تدخل جذري لمعالجتها.
ويرى الباحث في الحق في السكن أن الحل العادل ينبغي أن يراعي حقوق الطرفين: فمن حق المستأجر العيش في سكن مستقر بتكلفة تتناسب مع دخله، كما من حق المالك الاستفادة من ممتلكاته بشكل منصف. وعلى الدولة، باعتبارها من وضعت الإطار القانوني السابق، أن تتحمل مسؤولية إصلاح الخلل التاريخي دون تحميله للمواطنين.
ويضيف أن المقترح الحكومي يمنح المستأجرين مهلة مدتها خمس سنوات، وبعدها يصبح من حق المالك اللجوء إلى القضاء لطردهم. في المقابل، تُمنح الأسر وحدات من هيئة المجتمعات العمرانية إما بالتمليك أو بالإيجار. لكن تلك الوحدات عادةً ما تكون باهظة الثمن وبعيدة جغرافيًا عن محيط حياة السكان، دون أي خطة واقعية لضمان التسكين البديل أو العدالة الاجتماعية. ومع انقضاء الفترة الانتقالية، تواجه آلاف الأسر خطر التشريد، في ظل غياب آليات واضحة تحمي السكن أو توفر بدائل مناسبة. ما يُنذر بانفجار أزمة سكنية واجتماعية حادة لا تمتلك الدولة حتى الآن تصورات واضحة لتفاديها.
أن أغلب العقارات الواقعة تحت مظلة الإيجار القديم تقع في مناطق مثل شبرا، الوايلي، الدويقة، والساحل، وهي ضمن نطاق خطة “تطوير القاهرة 2052”. ومع انتهاء العلاقة الإيجارية، يزول العائق القانوني أمام نزع الملكية، ما يفتح الباب أمام تدخل الدولة وهيئة المجتمعات العمرانية، وقد يجد المالك نفسه فجأة مطالبًا بإخلاء العقار أو الدخول في نزاع قضائي للتعويض- بحسب عز الدين.
ويشير الباحث في ملف الحق في السكن إلى أن في الكواليس، هناك من يخطط لامتلاك هذه العقارات أو السيطرة على مواقعها الاستراتيجية. مستثمرون محليون وإقليميون، وشركات عقارية ضخمة، يترقبون لحظة انتهاء العلاقة بين المالك والمستأجر. لا المالك سيحصل على ملكه كاملاً، ولا المستأجر سيحافظ على سكنه. بل تتحول العقارات إلى أصول استثمارية مربحة تُمنح لمن كان ينتظر من بعيد.
ما يجري، وفق تصريحات إبراهيم عز الدين، لا يقتصر على مجرد تعديلات قانونية، بل هو مشروع لإعادة هيكلة الحيازة العقارية في مصر على حساب الفئات الأضعف. بعد خمس سنوات، قد نجد المستأجر في الشارع، والمالك في المحاكم، بينما تُعلن شركات كبرى عن مشروعات عقارية فاخرة على أنقاض أحياء شعبية مثل شبرا أو الوايلي، في مشهد يُقصى فيه الفقراء باسم التطوير، وتُباع فيه الأرض لمن يملك النفوذ، لا لمن سكنها أو ورثها أو بنى فيها يومًا.
نوصي بالقراءة: التطوير مقابل الإزالة: كيف ضّحت الحكومة بمواطنيها من أجل الطرق؟

قانون ظالم للطرفين؟
في السياق، يحذر المحامي ياسر سعد من أن التعديلات المقترحة على قانون الإيجار القديم تنطوي على مخالفات دستورية واضحة، وتهدد بإشعال نزاعات جديدة دون أن تقدم حلاً حقيقيًا للأزمة المزمنة بين الملاك والمستأجرين.
ويؤكد لزاوية ثالثة أن هذه التعديلات تتعارض مع قاعدتين دستوريتين أساسيتين استندت إليهما أحكام المحكمة الدستورية العليا، الأول مبدأ العقد شريعة المتعاقدين، والذي يمنع تدخل أي طرف ثالث في العلاقة التعاقدية بين المالك والمستأجر، إلا في حالات الضرورة القصوى، مثل الحرب أو الطوارئ العامة. “إن إنهاء العلاقة التعاقدية بين طرفين مدنيين بقرار قانوني، دون حالة ضرورة مُلحّة، يُعد مساسًا واضحًا بالحقوق المدنية الأساسية”، على حد قوله.
أما المبدأ الدستوري الثاني الذي خالفه التعديلات الحقوق المكتسبة، وهي تلك التي كفلها الدستور ويمنع المساس بها بأثر رجعي. ويرى سعد أن إنهاء العلاقة الإيجارية بشكل فجّ، أو فرض شروط جديدة دون رضا الطرفين، يمثل انتهاكًا لهذا المفهوم الدستوري المستقر. ويشير إلى أن المحكمة الدستورية العليا سبق أن أرست حكمين مهمين في هذا السياق: الأول، يقضي بعدم جواز امتداد عقد الإيجار إلا للجيل الثاني فقط، والثاني، ينص على ضرورة توافق القيمة الإيجارية مع الظروف الاقتصادية وأسعار السوق، لكنه لم يمنح الدولة سلطة مطلقة في تعديل العقود أو إنهائها.
كما يوضح سعد أن دور الدولة في هذا الملف يجب أن يُحصر في الإشراف والتنظيم العام، مثل لجان تقدير الإيجار التي نص عليها قانون 54، والتي جرى إهمالها تدريجيًا حتى أصبحت بلا تأثير. “الدولة ليست طرفًا في هذه العلاقة، بل راعٍ لضمان توازنها وفق أحكام القانون والدستور”، يضيف سعد.
ويرى المحامي بالنقض، أن التعديلات المطروحة لن تحل الأزمة، بل على العكس، ستفاقمها، إذ تهدد بهدم الاستقرار السكني لعشرات الآلاف، دون أن تضمن للملاك تعويضًا عادلًا أو استعادة حقيقية لحقوقهم. ويشدد سعد على أن الحل لا يمكن أن يأتي من طرف واحد أو عبر فرض القانون من أعلى، بل يجب أن يقوم على حوار مجتمعي واسع وشامل، تشارك فيه كل الأطراف المعنية: المستأجرين، والملاك، والخبراء، بهدف إعادة تنظيم العلاقة الإيجارية بما يضمن العدالة للجميع.
من جهته انتقد النائب فريدي البياضي، عضو مجلس النواب ونائب رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، الصيغة الحالية لمشروع قانون الإيجار القديم، محذرًا من تداعياته على الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع، ومؤكدًا أنه “ظالم للمالك والمستأجر معًا”. كما عبّر البياضي عن رفضه القاطع لفكرة الزيادة المفاجئة في القيمة الإيجارية، مشيرًا إلى أن رفع الإيجار من 5 أو 10 جنيهات إلى 1000 جنيه دفعة واحدة، يُعد عبئًا لا يُحتمل على محدودي الدخل.
وطالب النائب في حديثه لزاوية ثالثة بفترة انتقالية عادلة لتطبيق الزيادات، تراعي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمستأجرين، بدلًا من سياسات الإخلاء المفاجئ التي اعتبرها “غير واقعية”. كما انتقد المادة التي تنص على إخلاء الوحدة خلال 5 سنوات.
ودعا البياضي إلى حل بديل قائم على الدعم النقدي المباشر، تقرّه الدولة للمستأجرين غير القادرين، لا سيما أصحاب المعاشات والمستفيدين من برامج الحماية الاجتماعية مثل “تكافل وكرامة”، معتبرًا أن هذا الحل أكثر واقعية من بناء وحدات جديدة يصعب نقل المواطنين إليها بعيدًا عن أماكن أعمالهم ومدارس أبنائهم، فلا يجب أن تكون الحلول على حساب المستأجرين.
واعتبر النائب في ختام حديثه أن وضع حد أدنى موحد لقيمة الإيجار مثل مبلغ 1000 جنيه يعكس انعدام العدالة في التوزيع، لأنه لا يُفرّق بين شقة تطل على النيل وأخرى مكونة من غرفة وصالة في منطقة نائية. وأن ما تحتاجه الدولة ليس فقط إصلاح قانوني، بل رؤية عادلة ومرنة توازن بين حقوق الملاك وكرامة المستأجرين، ضمن سياسة إسكانية شاملة تراعي الواقع الاقتصادي والاجتماعي.
من ورقته الصادرة عن ديوان العمران بعنوان “نحو حل عادل لقضية الإيجارات القديمة في مصر”، يقترح الباحث العمراني إبراهيم عز الدين حزمة من الإصلاحات الشاملة لمعالجة أزمة الإيجارات القديمة، تنطلق من رؤية متكاملة تضع العدالة الاجتماعية والحق في السكن في صدارة الأولويات.
يرى الباحث العمراني إبراهيم عز الدين أن أزمة الإيجار القديم لا يمكن تفكيكها دون التوقف أمام الخلل الأوسع في السياسات الإسكانية للدولة. في حديثه إلى زاوية ثالثة، يشدد على أن أول خطوة مطلوبة هي “ضبط السوق العقاري”، من خلال أدوات ضريبية عادلة تحد من المضاربة، وتجبر رؤوس الأموال على التوجه نحو مشروعات الإسكان الاجتماعي لا الربحي فقط. ويطالب الدولة باستعادة دورها المباشر في بناء مساكن لذوي الدخل المحدود والمتوسط، مؤكدًا أن الاكتفاء بمشروعات استثمارية مرتفعة العائد يزيد من تفاقم الأزمة.
عز الدين لا يتوقف عند ذلك. فهو يدعو أيضًا إلى إلزام القطاع الخاص بتخصيص نسب واضحة من مشروعاته لصالح الإسكان الميسر، في إطار شراكة تضمن توزيعًا أكثر عدالة للموارد العمرانية. أما على صعيد الحماية الاجتماعية، فيقترح توسيع برامج الدعم المباشر للأسر الهشة، عبر قروض ميسّرة أو آليات التأجير التمليكي، بما يضمن لهم سكنًا لائقًا ومستدامًا.
ويشدد عز الدين على ضرورة مراجعة التشريعات العمرانية القائمة لضمان اتساقها مع مبادئ العدالة الاجتماعية، كما يطالب بتعريف قانوني واضح لمفهوم “الإخلاء القسري” يتماشى مع المعايير الدولية، مع التأكيد على توفير بدائل سكنية وتعويضات منصفة للمتضررين، وإشراك المجتمعات المحلية في صياغة السياسات لتجنب الإقصاء والقرارات الفوقية.
أما في ما يخص العلاقة التعاقدية بين المالك والمستأجر، فيدعو عز الدين إلى إعادة تنظيمها على أسس أكثر عدالة، تبدأ بزيادات إيجارية تدريجية ترتبط بمعدل التضخم أو مستوى دخل المستأجر، مع ضرورة وقف الامتداد التلقائي للعقود باستثناء حالات إنسانية، مثل امتداد العقد للزوجة لفترة انتقالية. كما يوصي بوقف ما سماه بـ”الوراثة المفتوحة للعقارات”، مع دمج الوحدات الشاغرة في السوق العقاري وفق آليات واضحة، وضمان عدم تنفيذ أي إخلاء دون توفير بديل فعلي.
ويذهب الباحث العمراني إلى أبعد من ذلك، مقترحًا إنشاء صندوق دعم انتقالي، يُموّل من الموازنة العامة وعوائد التصالح الضريبي، لتخفيف الأعباء عن الملاك والمستأجرين خلال فترة التحول، مع منح إعفاءات ضريبية للملاك المتضررين.
في هذه الأثناء، تتواصل مناقشات اللجنة المشتركة بمجلس النواب حول مشروعي القانونين المقدمين من الحكومة لتنظيم الإيجارات القديمة. اللجنة، التي تضم لجان الإسكان والمرافق العامة، والإدارة المحلية، والشؤون الدستورية والتشريعية، أعلنت عن بدء جلسات الاستماع لأطراف العلاقة خلال الأسبوع المقبل، حيث تستقبل ممثلي الملاك يوم الأحد، والمستأجرين يوم الإثنين.
ويأتي هذا التوجه استجابة لتوجيهات المستشار حنفي جبالي، رئيس مجلس النواب، بضرورة فتح المجال أمام حوار مجتمعي حقيقي، يفضي إلى تشريع متوازن يحفظ حقوق جميع الأطراف، ويجنب البلاد موجة اضطرابات اجتماعية.