منذ عام 2014، مع تولّي الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم، اتّسع النفوذ الاقتصادي للقوات المسلحة المصرية بوتيرة غير مسبوقة. تمدّدت الشبكة الاستثمارية التابعة للمؤسسة العسكرية لتشمل عشرات الشركات والمشروعات في مختلف القطاعات المدنية، من البناء والتطوير العقاري إلى الصناعات الغذائية والخدمات اللوجستية.
وفي حين أبدت مؤسسات دولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي قلقها مرارًا من التداخل العسكري في الاقتصاد، يزداد الاهتمام المحلي والدولي بتحليل تداعيات هذا الحضور على عدالة المنافسة والتنمية المستدامة. في هذا التحقيق، تقدم زاوية ثالثة قراءة تفصيلية لهذه الظاهرة، مدعومة بشهادات ميدانية وإحصاءات من مصادر موثوقة.
أسهمت سيطرة القوات المسلحة على قطاعات اقتصادية واسعة في خلق بيئة تنافسية غير متكافئة، تضعف من قدرة القطاع الخاص – بل وحتى الشركات الحكومية المدنية – على البقاء والمنافسة. إذ تتمتع الشركات التابعة للجيش بامتيازات حصرية، تشمل الإعفاء من الضرائب والجمارك، واستخدام المجندين كقوة عمل منخفضة الكلفة، فضلًا عن تفضيلها في الإسناد المباشر للمشروعات الحكومية.
أحد أبرز الأمثلة على ذلك هو دخول الجيش سوق صناعة الإسمنت، حيث أنشأ عام 2018 مصنعًا ضخمًا بطاقة إنتاجية بلغت 13 مليون طن سنويًا، رغم أن السوق كان يعاني أصلًا من فائض في المعروض. هذا الدخول الكاسح، كما نقلت وكالة رويترز، تسبب في اختلال ميزان السوق، وأدى إلى تكبد شركات خاصة – بينها مستثمرون أجانب – خسائر فادحة، بل واضطرت بعض الشركات إلى تعليق أنشطتها أو مغادرة السوق.
هذه الامتيازات الممنوحة للمؤسسة العسكرية، مقرونة بالإعفاءات والاستثناءات، تثير قلقًا متزايدًا لدى مجتمع الأعمال المحلي والدولي، خصوصًا مع تصاعد الإسناد المباشر للمشروعات دون منافسة مفتوحة. وقد حذرت تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من أن هذه الهيمنة تعيق تطور القطاع الخاص، وتُضعف قدرته على خلق فرص العمل، وهو ما ينعكس على مؤشرات الاستثمار.
فبحسب بيانات البنك الدولي، بلغ متوسط الاستثمار الخاص في مصر خلال العقد الماضي نحو 6.3% من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما لا يتجاوز خُمس متوسط الاستثمار الخاص في الدول متوسطة الدخل. كما تراجع تصنيف مصر في مؤشر الحرية الاقتصادية الصادر عن مؤسسة هيريتدج إلى المرتبة 130 من أصل 178 دولة عام 2021، ما يعكس بيئة عمل خانقة تحت وطأة تدخل الدولة والجيش في السوق.
وتُشير تقييمات صدرت عن مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة هارفارد إلى أن توسّع الدور العسكري أضعف من وتيرة النمو الاقتصادي. ويقول الخبير الاقتصادي إسحاق ديوان، في هذا السياق، إن “الاقتصاد الذي يهيمن عليه العسكريون أقل قدرة على تحقيق نمو مستدام من اقتصاد تُديره نخب مدنية، حتى وإن كانت فاسدة”، مرجعًا ذلك إلى أن الضباط يحتكرون الموارد والصفقات بطريقة تتجاوز ما كان يحدث في عهد رجال الأعمال المحسوبين على نظام مبارك.
اضطر عبد السلام (اسم مستعار)، مقاول يعمل في قطاع البناء منذ أكثر من عشرين عامًا، إلى تقليص حجم نشاطه بنسبة تتجاوز 70% منذ عام 2018، نتيجة توسع نفوذ شركات تابعة للهيئة الهندسية للقوات المسلحة في السوق. ويقول في حديث إلى زاوية ثالثة إن هذه الشركات، التي تحظى بامتيازات خاصة تتيح لها تنفيذ معظم مشروعات الدولة، أجبرته على الاستغناء عن مئات العمال وعشرات المهندسين، والاقتصار على عدد محدود من المشروعات، لا يحصل عليها إلا عبر وسيط من كبار المقاولين المتعاملين مباشرة مع الهيئة، في إطار تقسيم للعمل يشرف عليه هؤلاء المقاولون المفوّضون من ضباط الجيش، على حد وصفه.
ويُوضح عبد السلام، الذي ورث المهنة عن والده منذ خمسينيات القرن الماضي، أن أوضاع السوق تغيّرت بالكامل بعد عام 2013. فبينما كانت المناقصات تُجرى في السابق عبر الجهات المحلية مثل المجالس والوحدات الإدارية، باتت الهيئة الهندسية اليوم تحتكر الإشراف على المشروعات الكبرى في مختلف المحافظات، مستفيدة من إعفاءات واسعة النطاق وغياب المنافسة الحقيقية. ويضيف: “حاليًا، يتم توزيع المشروعات من خلال الهيئة لمقاولين محددين، وهؤلاء بدورهم يوزعونها على شركات أصغر. أحيانًا عبر قرعة، وأحيانًا أخرى وفق العلاقات والأهواء”.
ويشرح عبد السلام طبيعة هذا الاحتكار قائلًا: “الهيئة تنفذ نحو 90% من المشروعات، إما مباشرة عبر مكاتبها وشركاتها التابعة للجهاز الوطني للتنمية، حيث لا تتجاوز نسبة العمالة المدنية 2%، أو من خلال تكليف مقاولين كبار بتوزيع العمل. المشكلة أن هذا الهيكل يُقصي المقاولين الصغار، ويحصر فرصهم في الفُتات، دون أي ضمانات للربح”.
ويتابع: “في البداية، حاولنا اللحاق بركب مشروعات الهيئة، باعتبارها الفرصة الوحيدة لضمان الاستمرارية. لكن سريعًا ما اصطدمنا بتأخر صرف الدفعات، وغياب الضمانات لتحصيل المستحقات النهائية بعد تسليم الأعمال، ما حوّل الأرباح المتوقعة إلى خسائر متراكمة”.
ويُشير إلى أن الأزمة الأكبر تتعلق بمنظومة التشغيل داخل الهيئة نفسها. إذ تعتمد على مجندين لا يتقاضون أجورًا سوقية، ولا تلتزم بدفع الضرائب، وهو ما يمنحها قدرة على خفض التكلفة الإجمالية. ويقول: “المشكلة لا تقتصر على المنافسة غير العادلة، بل تمتد إلى جودة التنفيذ. فالمقاول الذي يُكلّف من قِبل الهيئة بمشروع تبلغ تكلفته الفعلية 100 وحدة، يحصل عليه بسعر متدنٍ لا يتجاوز 50 أو 60 وحدة بعد خصومات الهيئة، ثم يُلزم بإنجازه بالسعر الكامل. لتحقيق ربح، قد يلجأ إلى مواد بناء رديئة أو تقنيات غير آمنة. أنا لم أفعل ذلك، ولهذا السبب انهارت شركتي”.
ويختم عبد السلام بالإشارة إلى أن ما يحدث لا يُقصي المقاولين فحسب، بل يُهدد مستقبل قطاع البناء المدني، ويُعمق الفجوة بين السوق المفتوح ومنظومة اقتصادية تتمتع بحصانة مزدوجة: قانونية ومالية.
نوصي للقراءة: البناء المخالف يدخل دوامة المحاكم العسكرية
سوق بلا حماية
يقول حسام الدرديري (اسم مستعار)، وهو مقاول مصري، في حديث إلى زاوية ثالثة، إن التدخل المتزايد للمؤسسة العسكرية في سوق المقاولات خلال السنوات الأخيرة خلّف آثارًا مدمّرة على القطاع الخاص، موضحًا أن نحو ألف شركة كانت ��عمل في السوق قبل هذا التمدد، توقفت نصفها تمامًا عن العمل بسبب هيمنة الهيئة الهندسية للقوات المسلحة.
ويتابع: “ما لا يقل عن 500 شركة أغلقت أبوابها، فصلت عمالها ومهندسيها، وتخلّت عن معداتها واستثماراتها. لم تعد قادرة على الاستمرار لأن قواعد المنافسة تغيرت بالكامل، وأصبح من المستحيل مجاراة الامتيازات الممنوحة للشركات التابعة للجيش”.
أما النصف الآخر، فيوضّح الدرديري أنه انقسم بدوره إلى قسمين: “250 شركة أُجبرت على إعلان الإفلاس بسبب الديون المتراكمة وعجزها عن تغطية النفقات، و250 شركة أخرى لا تزال عالقة في مشاريع مع الهيئة الهندسية. هذه الشركات لا تستطيع الانسحاب رغم الخسائر، لأنها التزمت بعقود استلزمت استثمارات ضخمة، والتراجع عنها يعني الانهيار المالي الكامل”.
ويُورد الدرديري مثالًا على ما يعتبره “نموذجًا صارخًا للاختلال”، ويتعلق بمنحة إماراتية خُصصت لإنشاء مشروعات إسكان اجتماعي للشباب في مصر. وبحسب روايته، فقد دُفعت قيمة المنحة نقدًا وبشكل كامل، وتم التعاقد مع عدد من المقاولين، من بينهم شركته، لتنفيذ هذه المشروعات في مواقع محددة. وبالفعل، تم إنجاز الأعمال وتسليمها بعد استكمال التشطيب.
لكن المفاجأة، كما يقول، أن العقود الرسمية لم تُوقَّع مع المقاولين إلا بعد الانتهاء من التنفيذ، في حين تم صرف المستحقات من خلال “مستخلصات متأخرة”، وهو ما أرهق الشركات ماليًا وأفقدها القدرة على تحقيق أرباح.
ويضيف: “بدلًا من أن تُوجَّه المنحة لدعم الشباب كما خُصصت، استُخدمت في سداد دفعاتنا المتأخرة، ولكن بصورة مجزأة وبطيئة، وكثيرًا ما كانت الدفعات تتأخر أو تُخصم منها أجزاء دون توضيح. بهذا الشكل، تحمّلنا نحن الخسائر، بينما استلمت الجهة المنفذة – أي الهيئة – كامل التمويل مسبقًا”.
ويشير الدرديري في شهادته إلى أن هذا النمط من التعامل لا يُضعف فقط المقاولين، بل يهدد وجودهم تمامًا، ويؤدي إلى تقويض القطاع الخاص المحلي لصالح منظومة مغلقة لا تحتكم إلى قواعد السوق أو العدالة التنافسية.
تشير تقديرات غير رسمية إلى أن الجيش المصري يسيطر على ما بين 25% إلى 40% من الاقتصاد المصري. ويتمتع الجيش بمزايا تنافسية تجعل من الصعب على القطاع الخاص منافسته. أول هذه المزايا هو الإعفاء من الضرائب والرسوم الجمركية بموجب قوانين مثل المادة 47 من قانون ضريبة الدخل لعام 2005.
والمادة 19 من قانون الإعفاءات الجمركية التي تنص على: “ أن يعفى من الضريبة الجمركية وفقـاً للشروط والأوضاع التي تحددها اللائحة التنفيذية ما تستورده وزارة الدفاع وأجهزتها، والشركات والوحدات والهيئات التابعة لوزارة الإنتاج الحربى، والمخابرات العامة، ووزارة الداخلية، من أسلحة وذخائر وتجهيزات ووسائل نقل، وسيارات الركوب الخاصة للاستعمال الرسمي بوزارة الدفاع، ومواد وأدوات وآلات ومهمات وأجهزة طبية وأدوية باسم هذه الجهات أو لحسابها، وذلك كله لأغراض التسليح أو الدفاع أو الأمن، وبدون شرط المعاينة.
نفذت القوات المسلحة مشاريع ضخمة في قطاعات متعددة ضمن البنية التحتية، الإسكان، الصناعة، الزراعة، والسياحة، تشمل المشاريع البارزة توسعة قناة السويس (2014-2015) بتكلفة 8 مليارات دولار، وبناء العاصمة الإدارية الجديدة، التي تديرها شركة تابعة للجيش بنسبة ملكية 51%. كما نفذت الهيئة الهندسية للقوات المسلحة 276 مشروعًا بقيمة 198 مليار جنيه مصري حتى عام 2021، بما في ذلك 25 طريقًا في سيناء بطول 1185 كيلومترًا. في الصناعة، أنشأت الجيش مصانع للأسمنت والرخام، واستحوذت على حصص كبيرة في إنتاج الفوسفات والذهب. في الزراعة، تدير الجهاز الوطني للخدمات مشاريع زراعية واستزراعًا سمكيًا باستخدام عمالة المجندين.
مجندون في خدمة الاقتصاد العسكري
تركّز أثر تمدد الجيش في الاقتصاد المصري لا على الشركات فحسب، بل امتد ليعيد تشكيل سوق العمل، من خلال نمط تشغيل يعتمد إلى حدّ كبير على المجندين الإلزاميين كقوة عمل منخفضة الكلفة. إذ تعتمد المشروعات الاقتصادية التابعة للمؤسسة العسكرية على عشرات الآلاف من المجندين، يُكلفون خلال فترة خدمتهم الإلزامية بأداء أعمال مدنية، تتراوح بين البناء وتشغيل محطات الوقود والعمل في مصانع الأغذية.
ورغم الطبيعة المدنية لهذه المهام، لا يحصل المجندون على حقوقهم كعاملين. فوفقًا لتقارير مستقلة، لا يتجاوز الراتب الشهري النموذجي للمجند في إحدى الوحدات الاقتصادية العسكرية 250 جنيهًا (حوالي 35 دولارًا)، وهو أجر يقل كثيرًا عن أدنى مستويات سوق العمل المدني. كما أن المجندين لا يخضعون لقانون العمل، بل لأنظمة القوات المسلحة، ما يعني حرمانهم من الحماية النقابية، وحق التفاوض الجماعي، والإضراب، أو حتى الاعتراض على ظروف العمل.
ويُفاقم هشاشة هذا الوضع التسلسل العسكري الصارم، الذي يُلزم المجندين بطاعة الأوامر دون اعتراض، في بيئة تفتقر إلى آليات رقابة مستقلة، مما يُسهل التعرض لسوء المعاملة وظروف العمل القاسية دون محاسبة.
يوفر هذا النموذج، من وجهة نظر المؤسسة العسكرية، ميزة مالية كبيرة، إذ تُؤمَّن العمالة البشرية بتكلفة شبه معدومة. لكن في المقابل، يؤثر ذلك بشكل مباشر على قدرة الشركات المدنية – الخاصة والحكومية – على المنافسة في سوق التشغيل، إذ تُجبر على دفع رواتب أعلى والتزامات تأمينية وقانونية، في ظل غياب تكافؤ الشروط.
ورغم التصريحات الرسمية بأن مشروعات الجيش توفّر فرص عمل لنحو 5 ملايين مدني، إلا أن خبراء يصفون كثيرًا من هذه الوظائف بأنها “بطالة مقنّعة”، نظرًا لطبيعتها المؤقتة أو ضعف إنتاجيتها، لا سيما حين تُسند إلى مجندين. في الوقت ذاته، تُشير تقديرات غير رسمية إلى أن نسبة البطالة بين الشباب في مصر قد تصل إلى نحو 28.5%، ما يُبرز الفجوة بين التوسّع الظاهري في فرص العمل، وواقع التشغيل المستدام.
كما يحتكر الجيش مشروعات البنية التحتية الكبرى، مثل الطرق والجسور، عبر إسناد مباشر دون منافسات مفتوحة، ما يحد من فرص القطاع الخاص، ويُثني مستثمرين أجانب عن دخول السوق، ويُضعف من معدلات النمو ويقلّص من إمكانية خلق وظائف دائمة خارج المؤسسة العسكرية.
وخلال إعداد هذا التحقيق، تحدثت زاوية ثالثة مع عشرات المجندين السابقين والحاليين، ممن خدموا في مشروعات جهاز الخدمة الوطنية والهيئة الهندسية، وقد أجمعوا على تدنّي الأجور، وطول ساعات العمل، وغياب الحماية الصحية أو التأمينية، إضافة إلى غياب أي بعد إنساني في إدارة العمل. وأكدوا أن ما يُطلب منهم لا يُعامل كوظيفة، بل يُفرض بوصفه “واجبًا عسكريًا”، لا يحق الاعتراض عليه، ولا يُكافأ كعمل إنتاجي حقيقي.
يقول سعد (23 عام من محافظة أسيوط): “التحقت بالخدمة العسكرية في عام 2021، وتم توزيعي على أحد مواقع البناء التابعة للهيئة الهندسية في منطقة الدلتا، كنت أعمل يوميًا في حمل الحديد والأسمنت والمساعدة في صب الخرسانة، من السادسة صباحًا وحتى غروب الشمس، عند السابعة مساءا، وأحيانًا كنا نعمل أكثر من ذلك، في حال القيادة تحتاج تسليم المشروع سريعًا”، ويتابع: ” ظروف العمل صعبة، درجة الحرارة مرتفعة جدًا، بعض زملائي لم يحتملوا وكان لدينا زميل يعاني من انخفاض الضغط بسبب الحرارة كان يتعرض للإغماء بشكل مستمر كنا نعمل وقت طويل دون فترات راحة كافية، ولا توجد وسائل حماية حقيقية. المرتب الذي كنت أتقاضاه شهريًا لا يتجاوز 300 جنيهًا، في حين أن العمال المدنيين الذين يؤدون نفس المهام كانوا يحصلون على 200 جنيه في اليوم الواحد.
أما مصطفى ابن محافظة سوهاج الذي أدى الخدمة العسكرية في الفترة بين 2020 و2021 فيقول في حديثه معنا: “تم نقلي إلى العاصمة الإدارية الجديدة، حيث كُلفت بالعمل في أحد مواقع الأبراج، كنا نؤدي مهام تتطلب مهارة وخطورة، مثل تركيب السقالات، ورفع المواد الثقيلة، وتفريغ الأسمنت، العمل كان يبدأ في الخامسة صباحًا ويستمر حتى المساء، لا يوجد وقت محدد عندما ننتهي من المهمة ينتهي العمل، في أحيان كثيرة بدون استراحة كافية، ولم يكن هناك أي مقابل مادي سوى مبلغ زهيد لا يتجاوز 260 جنيهًا شهريًا، ويضيف أن الأمر مختلف بالنسبة للمهندسين سواء العسكريين أو المدنيين، لأنهم يعملون عدد ساعات أقل ويحصلون على امتيازات منها وقت الراحة، والراتب، والأهم بالنسبة لمصطفى أنهم كانوا يحظون بمعاملة طيبة من القيادات، على عكس الجنود، وهنا يستدرك: “ليس الجميع، هناك قادة يتعاملون معنا بشكل جيد، لكن الكثيرين يعاملوننا بشكل سيء ومهين للكرامة”.
يختلف الأمر قليلًا بالنسبة لعبد الرحمن من محافظة الاسماعيلية الحاصل على (مؤهل عال) وجعله ينضم للجيش برتبة صف ضابط، يقول في حديثه معنا:” “خدمت في مشروع (حياة كريمة) في إحدى قرى الصعيد لمدة عامين. كنت مسؤولًا عن مجموعة من المجندين الذين يعملون في حفر خطوط الصرف الصحي وتمهيد الطرق، كانوا يعملون في ظروف صعبة، تحت حرارة الشمس، في طين وقاذورات، دون أدنى حماية أو أدوات كافية، الإقامة في مساكن غير آدمية، والطعام بالكاد يكفي، راتب المجند لم يكن يتجاوز 300 جنيه شهريًا، بينما كان المقاولون يدفعون للعمال المدنيين أضعاف هذا الرقم، وطبعًا كنت أتلق شكاوى بشكل شبه يومي لكن دون استجابة.
ويقول ياسر الذي عمل أثناء خدمته في مشروع أنفاق قناة السويس: “أُرسلت ضمن دفعتي في عام 2019 للعمل في أحد مواقع أنفاق قناة السويس. كان الشغل في الأنفاق مرهقًا وخطيرًا للغاية، كنا نعمل على عمق عشرات الأمتار تحت الأرض، نركب مواسير، وننظف الطين، وننقل المعدات الثقيلة. لم يكن هناك تأمين صحي حقيقي، وإذا أصيب أحد المجندين، المرتب؟ يجيب ساخرًا، لا يذكر، ثمن 3 علب سجائر، تقريبا 200 جنيه.

وتُظهر مقارنة الرواتب فجوة واضحة بين المجندين والموظفين في القطاع الخاص، يتقاضى المجندون رواتب رمزية تتراوح بين 200 إلى 500 جنيه مصري شهريًا (4-10 دولارات)، وهي لا تكفي لتلبية احتياجاتهم الأساسية. في المقابل، يتراوح متوسط رواتب العاملين في القطاع الخاص بين 3000 إلى 8000 جنيه مصري (60-160 دولارًا) للعمالة شبه الماهرة، وأعلى بكثير للمهنيين.
وسجلت البطالة بمصر انخفاضًا طفيفًا في السنوات الأخيرة إلى 6.3% في الربع الأول من 2025، مقارنة بـ6.6% في 2024 و7.0% في 2023، وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، لكن تظل البطالة بين الشباب (15-29 سنة) مرتفعة عند 14.9% في 2024، مع معدلات أعلى بكثير بين الإناث (37.1%) مقارنة بالذكور (9.8%)، بينما سجلت البطالة بين الشباب حاملي المؤهلات العليا 18.7% في 2024. وبلغ معدل المشاركة في القوى العاملة 44.2% في 2024، مرتفعًا من 43.4% في 2023، مع وصول القوى العاملة إلى 33.4 مليون فرد في الربع الأول من 2025.
يُعزى خبراء استمرار ارتفاع البطالة بين الشباب جزئيًا إلى هيمنة الجيش المصري على القطاعات الاقتصادية المربحة، مثل البنية التحتية والصناعة، مما يحد من نمو القطاع الخاص، المحرك الأساسي لخلق فرص العمل المستدامة. وعلى الرغم من أن مشاريع الجيش، مثل الطرق والجسور، توفر وظائف مؤقتة تعتمد على عمالة رخيصة مثل المجندين، إلا أنها غالبًا لا تقدم حلولًا طويلة الأمد، مما يزيد من تحديات البطالة بين الخريجين والشباب.
إلى ذلك يقول عمرو مجدي، الباحث في شؤون مصر بمنظمة هيومن رايتس ووتش، إنه لا توجد دراسات دقيقة يمكن الاستناد إليها لتحديد أرقام واضحة بشأن تأثير أنشطة الجيش الاقتصادية، لكن هناك مشاهدات وأدلة كثيرة تؤكد أن توسع الجيش في المجال الاقتصادي، خاصة بعد 2013، كان له تأثيرات مباشرة على آليات السوق، بما في ذلك البطالة والفرص المتاحة للعمل.
ويوضح في حديث إلى زاوية ثالثة أن تدخل الجيش في قطاعات اقتصادية معينة أربك السوق بشكل كبير، كما حدث في قطاع الأسمنت، حيث دخلت القوات المسلحة السوق من خلال إنشاء مصانع وخطوط إنتاج جديدة بين عامي 2017 و2018، وهو ما أدى إلى زيادة مفاجئة وكبيرة في حجم الإنتاج، وأدى في المقابل إلى إغلاق مصانع أخرى سواء كانت مملوكة للدولة أو للقطاع الخاص. وقال إن هذا المثال يصلح لتفسير أثر تدخل الجيش على سوق العمل.
ويلفت إلى وجود تصريحات رسمية لم تحظَ بالاهتمام الكافي، منها تصريح المتحدث العسكري في 2014 حول مشروع تفريعة قناة السويس الجديدة، حين قال إن الجيش يعتمد على “كتيبتين من العساكر”، وعلّق مجدي بأن الكتيبة في المفهوم العسكري تضم عادة ما بين 500 إلى 1000 جندي، وبالتالي فإن هذه أرقام ضخمة تُظهر أن الآلاف من المجندين يشغلون وظائف مدنية كان يمكن أن تُتاح للمدنيين.
ويتابع مجدي أن رئيس جهاز الخدمة الوطنية نفسه صرّح في مقابلة صحفية عام 2016 بأن الجهاز يعتمد على المجندين، مشددًا على أن هذه ليست ظاهرة جديدة، بل تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، حين بدأ الجيش في إنشاء أنشطة اقتصادية واسعة النطاق بقيادة المشير عبد الحليم أبو غزالة، حيث كان الجنود يعملون في الأفران، وأنتجت القوات المسلحة حينها ربع أو أكثر من ربع إنتاج الخبز في القاهرة وحدها.
موضحًا أن هذه المشاهد كانت ظاهرة للعيان، ويمكن لمن عاشوا تلك الفترة أن يتذكروا الجنود الواقفين في المخابز وأمام طوابير العيش. واليوم، ما زالت هناك صور مشابهة مرئية في الشارع، حيث يقف الجنود في محطات الوقود، وأكشاك الخضار والفاكهة، والسوبر ماركت، وكذلك في أكشاك تحصيل الرسوم على الطرق السريعة.
وهنا يقارن مجدي بين مساحة الحريات اليوم وآنذاك، مؤكدًا أن الثمانينات حظيت بمساحة أوسع لانتقاد مشروعات الجيش وعمالة السخرة في جريدة الأهالي مثلا ومن نواب المعارضة في البرلمان ما يعني أنه عقب مرور ٥٠ سنة هناك قمع أكثر وأشد قسوة بالمقارنة بما كان عليه.
ويعتبر الباحث المختص بشؤون مصر في هيومن رايتس ووتش أن هذه الوظائف من المفترض أن تُشغل من قبل مدنيين يحصلون على رواتب وفق معايير سوق العمل، مضيفًا أن تشغيل الجنود بدلًا من المدنيين يؤدي إلى حرمان قطاعات من المجتمع من فرص العمل، لا سيما النساء، في ظل وجود فجوة كبيرة في مشاركة المرأة في سوق العمل بمصر، وبما أن الخدمة العسكرية إجبارية للرجال فقط، فإن النساء يُقصَين من هذه الفرص تلقائيًا، ما يعمّق أزمة البطالة والفقر في أوساط النساء.
ويضيف أن هناك من يبرر تشغيل المجندين في الاقتصاد بأنهم يتعلمون مهنة أو صنعة تؤهلهم للعمل بعد الخدمة، وأنه يتم تعيين الكفاءات منهم، كما ورد في تصريحات رئيس جهاز الخدمة الوطنية وفي أقوال قادة عسكريين آخرين، لكن هذا بحسب مجدي “كلام دعائي”، لأن الجيش ليس مؤسسة للتأهيل الفني أو المهني، بل مؤسسة عسكرية بطبيعتها، وتأهيل المواطنين للوظائف يجب أن يتم عبر مؤسسات تعليمية وتدريبية مدنية متاحة للجميع، بما في ذلك النساء أو من تم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية. مشددًا على أن تشغيل المجندين في أعمال مدنية تحت مظلة المؤسسة العسكرية لا يبرر إجبارهم على الخدمة في وظائف لا علاقة لها بالجيش، كما لا يبرر عدم حصولهم على رواتب مناسبة أو حرمانهم من حرية الرفض، مشيرًا إلى أن من يرفض تنفيذ أمر مثل الوقوف في محطة بنزين قد يُحال إلى محكمة عسكرية بتهمة عصيان الأوامر.
ويلفت مجدي إلى تصريحات الجيش بأنه يخلق فرص عمل من خلال المشروعات القومية الكبرى التي يقودها، موضحًا أن الجيش غالبًا لا ينفذ المشروعات بنفسه بل يُحيلها لمقاولين من الباطن، سواء كانوا مصريين أو أجانب، وهذه التعاقدات تتم في غياب تام للشفافية، فلا أحد يعلم تكلفة العقود أو شروطها أو ما إذا كانت تحقق المصلحة العامة، وهذه السرية تجعل من المستحيل مساءلة أو رقابة هذه المشروعات التي تُعد جزءًا من اقتصاد الجيش غير الخاضع للرقابة.
ويضيف أن هذا النموذج يضر أيضًا بسوق العمل، لأن من يُشغَّل في هذه المشروعات لا يكون موظفًا في الجيش ولا في وزارة الدفاع، بل غالبًا ما يكون عاملًا بالأجر اليومي بدون أي حقوق، أو يتم تشغيله من خلال شركات مدنية بعقود من الباطن، ولا يتمتع بأي حماية قانونية. وأشار إلى أن تصريحات رسمية، بينها تصريح للرئيس عبد الفتاح السيسي عام 2016 أو 2017، تفيد بوجود نحو 50 ألف موظف مدني في وزارة الدفاع، وهو رقم ضئيل جدًا مقارنة بحجم المشروعات، ويعني أن الغالبية العظمى من العمال المدنيين العاملين مع الجيش لا يحملون عقودًا رسمية. محذرًا من أن هؤلاء العاملين معرضون للمحاكمة العسكرية، كما حدث في حالات وثّقتها منظمات حقوقية، من بينها واقعة عمال النظافة والحراسة في العاصمة الإدارية الجديدة الذين حوكموا عسكريًا بعد تصوير فيديو قصير لموقع قيد الإنشاء، رغم أنهم لم ينشروه.
ويشير الباحث المصري إلى أن هذه الحالات التي يتم الكشف عنها في الإعلام أو توثيقها من قبل منظمات حقوقية تمثل فقط “قمة جبل الجليد”، فيما يبقى الجزء الأكبر من الانتهاكات طي الكتمان. ولفت إلى قضية عمال ترسانة الإسكندرية، الذين تعرضوا لانتهاكات جسيمة من قبل الجيش بعد محاولتهم تنظيم احتجاجات سلمية أو إضراب عن العمل.
نوصي للقراءة: حظر التعاقد مع 4 جهات سيادية.. خطوة نحو اقتصاد أكثر شفافية أم مناورة سياسية؟
اقتصاد مغلق ومناخ طارد
من جهته يرى الخبير الاقتصادي زهدي الشامي أن حجم النشاط الاقتصادي التابع للمؤسسة العسكرية في مصر بات واسعًا ومؤثرًا بشكل كبير، رغم غياب الأرقام الدقيقة من الجهات الرسمية، ويقول: “الدولة عادةً ما تقلل من حجم مساهمة الجيش في الاقتصاد، لكن الواقع يظهر أن هناك عددًا كبيرًا من الأنشطة الاقتصادية التي أصبحت تحت سيطرة المؤسسة العسكرية، وهو أمر له تبعات متعددة”.
ويشير إلى أن هذا الوضع يؤدي إلى خلل كبير في بنية الاقتصاد، لكونه يؤثر على توازن السوق والعدالة التنافسية، موضحًا: “عندما تدخل مؤسسة لا تخضع لنفس القواعد القانونية والمحاسبية التي يخضع لها القطاع الخاص أو حتى القطاع العام، فإن ذلك يخل بمبدأ تكافؤ الفرص بين الفاعلين الاقتصاديين، ويؤدي إلى طرد قطاعات كاملة من السوق”.
ويضيف أن “الجيش لا ينفذ كل شيء بنفسه، فبعض المشاريع تتم عبر شركاته، وبعضها يتطلب عمالة مدنية، لكن في نهاية الأمر هناك تهميش للقطاع الخاص، وخصوصًا المشاريع الصغيرة التي تضررت بشكل مباشر من دخول الجيش في مجالات متنوعة، من بيع السلع الغذائية إلى تنفيذ المشروعات الكبرى”.
أما عن وضع العمالة، فيوضح الشامي أن “التوظيف داخل المشروعات العسكرية يختلف جذريًا عن التوظيف في الدولة أو القطاع الخاص، لا يوجد تنظيم نقابي، ولا حقوق قانونية واضحة، ولا مشاركة في الأرباح، ولا تمثيل عمالي، كل هذه الحقوق كانت موجودة في القطاع العام سابقًا، وحتى بدرجة ما في الخاص، لكنها غائبة في المشروعات التابعة للجيش”.
ويتابع: “العمال في هذه المشروعات يفتقرون إلى الحماية القانونية، ويعملون في بيئة تخلو من الشفافية والرقابة. الوضع القانوني غامض، ولا توجد محاسبة أو مجال للتظلم أو التفاوض الجماعي، ما يضعهم في وضع هش ويزيد من هشاشة سوق العمل المصري ككل”.
يشدد الشامي على أن الدور الطبيعي للمؤسسة العسكرية هو “حماية الوطن والدفاع عنه، لا ممارسة الأنشطة الاقتصادية الواسعة”، ويقول: “كان من المفترض أن يكون انخراط الجيش في الاقتصاد محدودًا، وفي نطاقات مرتبطة بالتصنيع الحربي أو البنية التحتية الاستراتيجية، وليس في بيع الجمبري أو الفول”.
ويؤكد أن توسع الجيش في الاقتصاد أصبح محل انتقاد داخلي وخارجي، بما في ذلك من قبل صندوق النقد الدولي، قائلاً: “حتى الصندوق، رغم سياساته الليبرالية التي ننتقدها، بدأ يعبر في السنوات الأخيرة عن قلقه من حجم هذا التوسع، بعدما تجاهله طويلاً. لكن على الرغم من ذلك، فإن الاستجابات الحكومية لا تزال شكلية وغير جادة، ولا توحي بوجود نية حقيقية للإصلاح”.
ويؤكد الشامي أن موقفه الناقد لتوسع الجيش لا يعني تبني سياسات صندوق النقد: “نحن ضد وصفات الصندوق من الأساس، لأنها أدت إلى تدمير القطاع العام وتجريفه بالكامل، لكننا ننتقد ما سبقناه إليه، لأن تدمير القطاع العام تم بمباركة الحكومة وبموافقة صندوق النقد، والنتيجة أننا خسرنا أصولًا وطنية كبرى، وأصبحنا نبيع الموانئ والمطارات والبنية التحتية للأجانب”.
ويشير إلى أن هذه السياسات خلقت معادلة مختلة، حيث “تم تدمير القطاع العام لصالح قطاعين: الأول هو الشركات التابعة للمؤسسة العسكرية، والثاني هو المستثمرون الأجانب الذين اشتروا أصول الدولة. والنتيجة أن القطاع الخاص المصري، سواء الصغير أو الكبير، أصبح محاصرًا وغير قادر على المنافسة”.
ويخلص الشامي إلى أن ما يجري في مصر حاليًا هو “ظاهرة مقلقة تتمثل في تدمير البنية الاقتصادية الوطنية”، مشيرًا إلى أنه “لم يعد هناك مجال لقيام استثمار حقيقي، سواء من القطاع الخاص المحلي أو حتى الأجنبي الجاد، لأن البيئة الاستثمارية غير مستقرة، والمنافسة غير عادلة، والتنظيم القانوني مختل”.
ويختم بالقول: “ما نراه اليوم هو مزيج مدمر بين خصخصة الأصول الوطنية لحساب الأجانب، وتغول قطاع اقتصادي تابع للمؤسسة العسكرية على حساب الجميع. وهذا الوضع لن يؤدي إلا إلى المزيد من التدهور الاقتصادي والاجتماعي”.
نوصي للقراءة: لماذا يواجه أهالي جميمة ضغوطًا من الجيش مقابل مشروعات سياحية؟
متى بدأ الجيش في الاستثمار؟
لم يكن حضور المؤسسة العسكرية المصرية في المجال الاقتصادي طارئًا أو وليد العقد الأخير، بل هو امتداد لتاريخ طويل من التداخل بين الأدوار السيادية والدور الإنتاجي الذي مارسه الجيش منذ تأسيس الجمهورية في أعقاب ثورة يوليو 1952، فقد ارتبطت العقيدة العسكرية المصرية، في جانب منها، بمفهوم الدولة التنموية التي تتبنى مشروعًا وطنيًا واسعًا يتجاوز حدود الأمن والدفاع، ليمتد إلى المساهمة في البناء الاقتصادي والاجتماعي. في هذا السياق، جاءت الخطوات الأولى لدخول القوات المسلحة إلى المجال الاقتصادي، متجسدة في إنشاء مصانع حربية تنتج الأسلحة وقطع الغيار، قبل أن يتم توجيه جزء من إنتاجها للسوق المدني لتلبية احتياجات المجتمع.
مع مطلع السبعينيات، وتحديدًا عقب انتصار أكتوبر 1973، بدأت ملامح جديدة تظهر في طبيعة العلاقة بين الجيش والاقتصاد. شهدت تلك المرحلة إطلاق ما يُعرف بجهاز مشروعات الخدمة الوطنية، الذي أُنشئ رسميًا عام 1979، كمؤسسة تابعة للقوات المسلحة تهدف إلى دعم احتياجات الجيش من السلع والخدمات دون الاعتماد الكامل على الموازنة العامة للدولة. لكن الجهاز، بمرور الوقت، توسّع في أنشطته ليشمل مجالات مثل الزراعة والتصنيع الغذائي والخدمات اللوجستية. في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، ورغم استمرار هذا التوسع، ظل الدور الاقتصادي للجيش محدودًا نسبيًا، محصورًا في قطاعات معينة، وغير مزاحم مباشر للقطاع الخاص أو الشركات المدنية الكبرى.
المشهد تغيّر تدريجيًا بعد ثورة يناير 2011، حين دخلت البلاد في مرحلة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي. آنذاك، برزت القوات المسلحة باعتبارها القوة الأكثر تنظيمًا وقدرة على فرض الانضباط في مؤسسات الدولة، وبدأ تدخلها الاقتصادي يتسع بحجة حماية الأمن الغذائي والاستراتيجي، وتعويض غياب المؤسسات المدنية الفعّالة. تولّى الجيش الإشراف على توزيع بعض السلع الأساسية، وأدار عددًا من الشركات العامة المتعثرة، وشارك في تنفيذ مشروعات خدمية عاجلة لاحتواء الغضب الشعبي المتصاعد.
التحول الأكبر، والأكثر جذرية، جاء بعد عام 2013، مع وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الحكم، إذ دخل الجيش في طور جديد من التمكين الاقتصادي، لم يقتصر على تأدية دور تنفيذي لمشروعات الدولة، بل تطوّر إلى فاعل اقتصادي من الطراز الأول، يمتلك شركاته، ويقود قطاعاته الخاصة، ويملك صلاحية الإشراف على المشروعات العملاقة. خلال هذه المرحلة، تمددت أنشطة المؤسسة العسكرية إلى قطاعات جديدة شملت العقارات والإنشاءات والمدن الجديدة، والصناعات الغذائية، والطاقة، ومحطات الوقود، والخدمات التجارية، ووسائل النقل، إلى جانب ذلك أصبحت الهيئة الهندسية للقوات المسلحة المقاول الأكبر للدولة، وامتدت صلاحياتها لتشمل تخطيط وتنفيذ كبرى المشروعات القومية، بما في ذلك العاصمة الإدارية الجديدة وشبكة الطرق القومية.
لم يعد الجيش المصري في هذه المرحلة شريكًا في الاقتصاد فحسب، بل بات يشكّل نموذجًا فريدًا من “رأسمالية الدولة” كما وصفه باحثون بمركز كارينغي للدراسات، يقف فيه الجيش على رأس هيكل إنتاجي وتسويقي يتداخل مع أجهزة الدولة، ويتفوق أحيانًا على القطاع الخاص في القدرة على النفاذ إلى الموارد والتسهيلات.
إعادة هيكلة الرأسمالية
تصاعد دور الجيش بعد 2013 لم يكن محض صدفة، بل ارتبط بسياقات سياسية واقتصادية وأمنية عميقة، دفعت باتجاه إعادة صياغة دور الجيش في معادلة الحكم والاقتصاد على حد سواء. فمع تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي السلطة، بعد عامين من اضطرابات سياسية واقتصادية حادة، ظهر توجه واضح نحو تمكين الجيش ليس فقط بوصفه الضامن لاستقرار النظام، بل كرافعة رئيسية لعملية إعادة الإعمار الاقتصادي واستعادة ثقة المواطنين في قدرة الدولة على توفير الاحتياجات الأساسية.
في هذا السياق، شكّل الجيش ملاذًا للقيادة السياسية في مواجهة ضعف الأداء البيروقراطي للمؤسسات المدنية، وعجز القطاع الخاص عن خوض مغامرات استثمارية في بيئة غير مستقرة. فبينما كانت السوق تعاني من ركود واستثمارات أجنبية هاربة، كانت المؤسسة العسكرية تملك عناصر التفوق: انضباط مؤسسي، قدرة على الحشد والتنفيذ، أصول واسعة النطاق، وشبكة لوجستية متكاملة. من هنا، لجأت الدولة إلى الجيش كشريك استراتيجي يمكن الاعتماد عليه لتنفيذ مشروعات قومية كبرى في زمن قياسي، بعيدًا عن التعقيدات الإدارية والتشريعية التي كثيرًا ما عطّلت الاستثمارات المدنية.
لكن خلف هذا المشهد التنفيذي، برزت دوافع أخرى أكثر عمقًا، تتعلق بإعادة بناء النموذج الاقتصادي للدولة المصرية على أسس مختلفة. لم يعد مقبولًا، من وجهة نظر السلطة، أن تظل الدولة رهينة تقلبات السوق، أو عاجزة أمام نفوذ رجال الأعمال الذين تصاعد دورهم السياسي والاقتصادي خلال العقود الماضية. ومن ثمّ، جاء التوسع العسكري في الاقتصاد كجزء من مشروع لإعادة هيكلة “رأسمالية الدولة”، تتولى فيه المؤسسة العسكرية دور القيادة، وتحتفظ فيه الدولة بيدها العليا في التخطيط والإنتاج والتوزيع.
كذلك لا يمكن إغفال البعد السياسي في هذا التوسع، حيث ساهم الوجود الاقتصادي القوي للجيش في تعزيز مركزه داخل الدولة، ليس فقط كمؤسسة أمنية، بل كفاعل اقتصادي مؤثر يمتلك مفاتيح التمويل والتنفيذ في كبرى المشروعات. بهذا المعنى، تحوّل التوسع الاقتصادي العسكري إلى أداة من أدوات الحكم، تضمن ولاء مؤسسات الدولة، وتُضعف أي بديل اقتصادي أو سياسي محتمل قد يُهدد استقرار النظام القائم.
بالمقابل، برّرت السلطة هذا التوسع بضرورة تعويض “الفراغ الاستثماري” في بعض القطاعات التي يراها القطاع الخاص غير ذات جدوى تجارية، مثل تنمية سيناء أو المناطق الحدودية أو إنشاء شبكات الطرق والكباري. وقدّمت المؤسسة العسكرية نفسها كضامن للاستثمار الآمن في تلك المناطق، نظرًا لقدرتها على تأمين المشروعات وتنفيذها دون الحاجة إلى قروض أو شراكات خارجية قد تُقيد السيادة الوطنية.
أعادت موجة التوسع الاقتصادي للمؤسسة العسكرية رسم العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص في مصر، بحيث أصبح القطاع الأخير يتحرك في بيئة يتقاطع فيها السياسي مع الاقتصادي، ويُعاد فيها تعريف مفاهيم التنافسية والشراكة وفقًا لأولويات الدولة، لا وفقًا لقواعد السوق الحرة التقليدية. ففي الوقت الذي تؤكد فيه الحكومة المصرية دعمها للقطاع الخاص، وتروج لسياسات “تمكينه” كشريك في عملية التنمية، تتجلى في الواقع ملامح علاقة أكثر تعقيدًا، تتراوح بين التعاون الحذر والتنافس غير المتكافئ.
منذ عام 2013، ظهر اتجاه متصاعد لإحلال الدولة، وبشكل خاص المؤسسة العسكرية، محل القطاع الخاص في العديد من القطاعات الاقتصادية، خاصة تلك التي تشهد عائدًا عاليًا أو تمثل قطاعات استراتيجية تمس الأمن الغذائي والطاقة والبنية التحتية. وفي هذا السياق، بدا أن الدولة ترى في الجيش “أداة تنفيذ فعالة”، يمكن الاعتماد عليها حين يتقاعس المستثمرون أو يتردد القطاع الخاص في ضخ رؤوس الأموال تحت ضغط المخاطر أو ضعف الثقة في السوق.
وقد عبّر الرئيس عبد الفتاح السيسي في أكثر من مناسبة عن رؤية تقوم على ضرورة تدخل الدولة عند الحاجة لضمان استقرار الاقتصاد وتقديم الخدمات، وهو ما يتناقض – بحسب دراسة مركز كارينغي مع المبادئ الأساسية لاقتصاد السوق، ويخلق بيئة غير مشجعة للمنافسة الحقيقية. فحين يدخل الجيش كمستثمر في قطاعات مدنية، مدعومًا بإعفاءات وإمكانات لوجستية وتنظيمية لا تتوفر للقطاع الخاص، تصبح المنافسة غير متكافئة، ويُصاب مناخ الأعمال بحالة من التشوش.
في المقابل، تتحدث بعض دوائر الدولة عن أن دخول الجيش في بعض المجالات يتم في إطار “سد الفراغ” مؤقتًا، على أن يُعاد لاحقًا تمكين القطاع الخاص بمجرد تحقيق الاستقرار. وقد شهدنا خلال الأعوام الأخيرة محاولات لطرح بعض الأصول العسكرية للاستثمار أو الشراكة، عبر صندوق مصر السيادي، أو من خلال الترويج لشركات مثل “وطنية” و”صافى” لطرح نسب منها في البورصة أو أمام مستثمرين استراتيجيين، وهو ما اعتُبر إشارة على نية إعادة رسم التوازن بين الدولة والقطاع الخاص.
ومع ذلك، يرى عدد من الخبراء الاقتصاديين أن هذه الخطوات لا تعني بالضرورة انحسار الدور الاقتصادي العسكري، بل ربما تكون إعادة تموضع وتوسيع عبر الشراكة لا الانسحاب. فالجيش لا يظهر فقط كمُنفذ للمشروعات أو مُشرف عليها، بل يمتلك الأصول والشركات ويشارك في الإدارة والتوجيه، بما يمنحه دورًا قياديًا في الاقتصاد يصعب منافسته ��و تجاوزه.
من جانب آخر، عبّر عدد من رجال الأعمال المحليين والأجانب عن مخاوفهم من طبيعة السوق المصري، حيث يُنظر إلى المنافسة مع الشركات المملوكة للدولة، لا سيما تلك التابعة للمؤسسة العسكرية، باعتبارها مخاطرة عالية وغير واضحة المعالم. كما أشار تقرير البنك الدولي عام 2020 إلى أن تزايد الدور الاقتصادي للدولة قد يعرقل دخول مستثمرين جدد، ويحدّ من فاعلية القطاع الخاص في تحقيق النمو المستدام وتوفير فرص العمل.
الجيش كمجموعة أعمال كبرى
امتد نفوذ القوات المسلحة المصرية خلال العقد الماضي ليشمل معظم القطاعات الاقتصادية الحيوية، عبر شركات ومشروعات ضخمة يديرها الجيش بشكل مباشر أو من خلال أجهزة تابعة له، ما جعله أحد أبرز الفاعلين الاقتصاديين في البلاد.
في قطاع الإنشاءات والبنية التحتية، يلعب الجيش دور المقاول الرئيسي في مشاريع الدولة الكبرى. فعلى سبيل المثال، تساهم شركة تابعة لوزارة الدفاع بنسبة 51% في مشروع العاصمة الإدارية الجديدة شرق القاهرة، الذي تُقدّر تكلفته بـ45 مليار دولار، بحسب رويترز. كما أُوكلت إلى الهيئة الهندسية للقوات المسلحة مشروعات ضخمة بعد عام 2014، شملت شبكات الطرق والإسكان الاجتماعي وتطوير المستشفيات، بقيمة فاقت مليار دولار، مستفيدة من ما يُوصف بقدرتها على “الإنجاز السريع والجودة العالية”. ومن أبرز إنجازاتها في هذا القطاع، إنشاء أكبر مصنع للإسمنت في مصر بمدينة بني سويف عام 2018 بطاقة إنتاجية غير مسبوقة، وسط سوق مشبعة أصلًا.
أما في قطاع الصناعة والسلع الاستهلاكية، فتدير وزارة الإنتاج الحربي نحو 20 مصنعًا وشركة، تنتج مجموعة واسعة من السلع المدنية إلى جانب المنتجات العسكرية. مثال على ذلك، شركة حلوان للأجهزة المعدنية (مصنع 360)، التي انتقلت من إنتاج المدافع إلى تصنيع الثلاجات والبوتاجازات. كما توسعت مصانع تابعة للجيش في مجالات الكيماويات، الأسمدة، الصلب، والأجهزة الطبية، تحت مظلة جهاز الخدمات الوطنية، الذي يُسوق منتجاته تحت شعار “صنع في مصر”.
في مجال الغذاء والزراعة، يدير الجيش شركة “صافي” لتعبئة المياه والزيوت، وكانت من أوائل الشركات العسكرية التي طُرحت للشراكة مع مستثمرين. كما أنشأ مزارع سمكية ضخمة، منها مشروع بركة غليون في كفر الشيخ، والذي وُصف عند افتتاحه عام 2017 بأنه من الأكبر عالميًا. وتوسّع الجيش في تربية الماشية، وإنتاج الألبان، وأقام مجمع “سيلو فودز” الصناعي بمدينة السادات عام 2021 لإنتاج مواد غذائية موجهة للمدارس والأسواق. كذلك، برزت سلسلة منافذ بيع غذائية تتبع منظمة “مستقبل مصر” التابعة للقوات الجوية، لتوزيع السلع التموينية بأسعار مخفّضة. وأثارت تقارير إعلامية جدلًا واسعًا حول علاقة الجيش بمحاولات الاستحواذ على شركة “جهينة” للألبان والعصائر، بعد اعتقال مؤسسها صفوان ثابت ونجله، وسط اتهامات بالتخارج الإجباري من بعض القطاعات.
في قطاع الطاقة والخدمات والنقل، تمتلك القوات المسلحة شبكة محطات وقود من خلال شركة “وطنية للبترول“، التي توسعت منذ تأسيسها مطلع الألفينات، وتُعد اليوم من أبرز شركات التزويد بالوقود في البلاد. ويجري حاليًا طرحها جزئيًا ضمن خطة الخصخصة الحكومية. أما في مجال النقل، فتدير شركات الجيش مشاريع الطرق والكباري، وتُشغّل خطوط حافلات في بعض المدن خلال فترات الضغط. كما أوكلت إليها الحكومة تطوير بعض الموانئ الجافة ومرافق لوجستية، مثل مخازن التبريد.
وفي قطاع التعدين، منح القانون رقم 198 لسنة 2014 وزارة الدفاع صلاحية الموافقة على استغلال الموارد المعدنية، وتحصيل رسوم على عمليات التعدين. واستثمر الجيش عبر شركات تابعة في محاجر الرخام، واستخراج الذهب، والرمال السوداء، وغيرها من الثروات الطبيعية.

ضغط دولي من أجل الشفافية
أثارت سيطرة الجيش المصري على قطاعات واسعة من الاقتصاد اهتمامًا متزايدًا وانتقادات متنامية من قبل المؤسسات المالية الدولية، التي أعربت عن قلقها من تأثير هذا التوسع على مناخ الاستثمار، وفعالية تخصيص الموارد، ونزاهة المنافسة.
في أكثر من مناسبة، عبّر صندوق النقد الدولي عن هذه المخاوف صراحة. ففي تقريره الصادر عام 2017، حذّر من أن مشاركة جهات تابعة لوزارة الدفاع في النشاط الاقتصادي قد تُضعف قدرة القطاع الخاص على النمو وتعيق خلق فرص العمل. وخلال فترة القرض البالغة 12 مليار دولار بين 2016 و2019، ربط الصندوق برامجه بالإصلاحات التي تهدف إلى تمكين القطاع الخاص، من خلال تقليص تدخل الكيانات المملوكة للدولة، بما في ذلك المؤسسة العسكرية.
وفي البرنامج الأحدث، الذي تفاوضت عليه الحكومة المصرية مع الصندوق في 2022/2023 بقيمة نحو 3 مليارات دولار، تم إدراج شروط غير مسبوقة تتعلق بضرورة إدماج الشركات العسكرية ضمن الإطار التنظيمي المدني. فقد نص الاتفاق على إلزام جميع الشركات المملوكة للدولة، بما فيها تلك التابعة لوزارة الدفاع، بتقديم بيانات مالية نصف سنوية إلى وزارة المالية ونشرها للعامة، بالإضافة إلى الإفصاح عن أي دعم أو امتيازات مالية أو تنظيمية تحصل عليها.
كما دعا الصندوق إلى تسريع عملية طرح بعض شركات الجيش في البورصة أو فتحها أمام مستثمرين استراتيجيين، لتحسين الحوكمة وتعزيز الثقة في الاقتصاد. وتأتي شركتا “صافي” للمياه و”وطنية” للبترول في مقدمة الكيانات المطروحة، وإن كانت وتيرة التنفيذ لا تزال أبطأ من المتوقع.
من جانبه، يتبنى البنك الدولي موقفًا أكثر تحفظًا في الصياغة، لكنه لا يقل وضوحًا في التوجّه. فقد أكد في تقاريره الأخيرة على أن مستوى الاستثمار الخاص في مصر (حوالي 6% من الناتج المحلي الإجمالي) يُعد من بين الأدنى عالميًا، داعيًا إلى إزالة الحواجز التي تعرقل دخول المستثمرين، وعلى رأسها المنافسة غير العادلة مع الشركات المملوكة للدولة والجيش. كما عبّر عن دعمه لوثيقة “سياسة ملكية الدولة” التي تهدف إلى تحديد القطاعات التي ستتخارج منها الدولة تدريجيًا لصالح القطاع الخاص.
أما منظمات الشفافية ومكافحة الفساد، فقد كانت أكثر صراحة. إذ دعت منظمة هيومن رايتس ووتش، في بيان صادر عام 2020، صندوق النقد إلى ربط أي دعم مالي لمصر بإفصاح كامل عن الأنشطة الاقتصادية للمؤسسة العسكرية. واعتبرت استمرار عمل الشركات العسكرية في إطار من السرية التامة عقبة حقيقية أمام الإصلاح المالي، وسببًا مباشرًا في هشاشة مناخ الأعمال.
وتلتقي معظم هذه التقييمات عند نقطة واحدة: إن تحقيق نمو اقتصادي مستدام وعادل في مصر يتطلب تقليص الدور الاقتصادي للمؤسسة العسكرية، وإخضاع أنشطتها لقواعد الشفافية والمساءلة والمنافسة العادلة.
ورغم أن الدولة المصرية أبدت استعدادًا محدودًا للانفتاح، إلا أن وتيرة التنفيذ البطيئة، وغياب التفاصيل الشفافة حول خطوات الإصلاح، تثير شكوكًا واسعة حول جدية التغيير. ومع تصاعد الضغوط الاقتصادية، يبقى موقف المؤسسات الدولية بمثابة اختبار حقيقي لقدرة النظام على إعادة التوازن بين الدولة والقطاع الخاص، بعيدًا عن منطق الاستثناءات العسكرية، ونحو نموذج اقتصادي يخضع لقواعد الس��ق والمساءلة.