الاقتصاد يتجاوز السياسة: نمو غير مسبوق في التجارة بين القاهرة وتل أبيب

بينما تتصاعد الحرب الإسرائيلية على غزة وتُسجّل أرقامًا مفزعة من الضحايا، تشهد العلاقات التجارية بين مصر وإسرائيل نموًا غير مسبوق، مدفوعةً بأزمة الطاقة المصرية وصفقات الغاز
Picture of زاوية ثالثة

زاوية ثالثة

في ذروة واحدة من أكثر مراحل الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي توترًا، وبينما تعمّ موجات الغضب الشارع العربي احتجاجًا على الحرب الدامية في غزة، تشهد العلاقات المصرية–الإسرائيلية السياسية فتورًا واضحًا، إلا أن العلاقات الاقتصادية بين البلدين تسلك مسارًا مغايرًا تمامًا. فقد سجل التبادل التجاري بين القاهرة وتل أبيب أرقامًا غير مسبوقة، في مشهد يعكس فجوة متسعة بين المزاج الشعبي واتجاهات المصالح الاقتصادية. 

هذا التناقض يطرح تساؤلات جوهرية: كيف ولماذا تنمو العلاقات الاقتصادية بين بلدين تشهد علاقاتهما السياسية توترًا حادًا؟

تشير البيانات الرسمية إلى أن صادرات الغاز الإسرائيلي إلى مصر تجاوزت حاجز المليارات، فيما تواصل الصادرات المصرية من المنتجات الزراعية والصناعية إلى إسرائيل ارتفاعها بشكل متسارع. في خلفية هذا المشهد، تتشكّل خريطة اقتصادية جديدة، حيث تتحرك المصالح بهدوء وسط ضجيج الحرب، مدفوعةً بحاجة مصر إلى الطاقة والعملات الأجنبية، في علاقات تتجاوز البُعد السياسي والأخلاقي.

ورغم ما وصفه مراقبون بحرب إبادة جماعية يشنها الاحتلال الإسرائيل على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، والتوتر المتصاعد في الشارع العربي، وما تبعه من حملات مقاطعة واسعة للمنتجات الإسرائيلية في عدة دول عربية، إلا أن التبادل التجاري بين مصر وإسرائيل واصل نموه الملحوظ. ففي عام 2023، بلغت صادرات إسرائيل إلى مصر نحو 2.23 مليار دولار، بينما بلغت صادرات مصر إلى إسرائيل 347 مليون دولار. وخلال النصف الأول من عام 2024، ارتفع حجم التبادل بنسبة 53% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، ما يفتح الباب أمام أسئلة متجددة حول دوافع هذا النمو، وأبعاده الاقتصادية والسياسية.

إلى جانب ذلك بلغ حجم التجارة بين إسرائيل ومصر 35 مليون دولار في يونيو 2024، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 29٪ في التجارة مقارنة بيونيو 2023،” وفقًا لتقرير معهد اتفاقيات إبراهيم للسلام، الذي أسسه جاريد كوشنر في عام 2021، أحد مهندسي اتفاقيات السلام والتطبيع التاريخية خلال الأشهر الأخيرة من إدارة ترامب. وأضاف المعهد أن “حجم التجارة الثنائية بلغ 246.6 مليون دولار خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2024، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 53% في التجارة مقارنة بالأشهر الستة الأولى من عام 2023”.

وبالموازاة تضاعفت الصادرات المصرية إلى إسرائيل في عام 2024 مقارنةً بالعام السابق، وفقًا لتقرير صادر، حديثًا عن المكتب المركزي للإحصاء الإسرائيلي. فيما تظهر البيانات أن الصادرات المصرية في مايو 2024 بلغت 25 مليون دولار، أي ضعف ما كانت عليه في الفترة نفسها من عام 2023. ورغم تزايد التوتر في العلاقات، تكثف التعاون في مجالي الطاقة والأمن بين البلدين منذ أكتوبر، حيث شهدت صادرات الغاز الطبيعي الإسرائيلي إلى مصر زيادة حادة في العام الماضي.

 

نوصي للقراءة: وسط الركام والقصف والجوع.. مصريون عالقون في غزة منذ عام ونصف

الغاز الطبيعي: محور العلاقات التجارية

تشير الأرقام إلى أن الغاز الطبيعي الإسرائيلي يمثل العمود الفقري لصادرات إسرائيل إلى مصر، بلغت صادرات غاز البترول وحدها 2.13 مليار دولار في عام 2023، ما يعادل 95% من إجمالي الصادرات الإسرائيلية إلى مصر. وتُعد هذه النسبة انعكاسًا لاعتماد مصر المتزايد على الغاز الإسرائيلي، خاصة في ظل التراجع الملحوظ في الإنتاج المحلي. فقد انخفض إنتاج مصر من الغاز بنسبة 15% بين يناير ويوليو 2024، ما دفع القاهرة إلى تكثيف وارداتها، التي بلغت 4.84 مليار متر مكعب خلال النصف الأول من العام الجاري، مقارنة بـ4.24 مليار متر مكعب في نفس الفترة من العام السابق.

ويصل حجم إنتاج مصر من الغاز إلى نحو 5 مليارات قدم مكعب حالياً، وتستورد من إسرائيل نحو مليار قدم مكعب يوميا، في حين يتراوح الاستهلاك بين 6.7 إلى 6.8 مليار قدم مكعب يوميا. هذا الاعتماد يتجاوز، وفق مراقبون الجانب الاقتصادي، ليطال الجوانب الاستراتيجية والأمنية، حيث أن صفقة الغاز الموقعة في 2020 بقيمة 15 مليار دولار مع شركات مثل “ديليك دريلينج” و”شيفرون” لم تكن مجرد صفقة طاقة بل جزء من مسار إقليمي أوسع لتعزيز التعاون بين تل أبيب وعدة عواصم عربية.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن شهدت مصر تراجعًا ملحوظًا في إنتاجها المحلي من الغاز الطبيعي خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2024، حيث انخفض الإنتاج إلى نحو 30.19 مليار متر مكعب مقارنة بـ35.5 مليار متر مكعب خلال الفترة نفسها من عام 2023، بنسبة تراجع تقارب 15%. يرجع هذا الانخفاض بشكل رئيسي إلى استنزاف الحقول البحرية الكبرى مثل حقل “ظهر” و”زهر”، إضافة إلى تباطؤ عمليات التنقيب عن حقول جديدة وتأخر مشروعات التطوير المخطط لها، مثل حقل “ريفين”، والتي من المتوقع أن تدخل الخدمة بعد عام 2025.

 

أظهرت بيانات أكثر تفصيلًا تراجعًا سنويًا في إنتاج الغاز بنسبة 17%، حيث انخفض من 59.29 مليار متر مكعب عام 2023 إلى 49.37 مليار متر مكعب عام 2024. وبلغ التراجع في حوض البحر المتوسط وحده، الذي يمثل 72.8% من الإنتاج المصري، نحو 18%، مما أثر بشكل مباشر عل�� قدرة مصر على تلبية الطلب المحلي. إذ يحتاج السوق المحلي 6.2 مليار قدم مكعب يوميًا، بينما لا يتجاوز الإنتاج 4.6 مليار. أدى ذلك إلى تحول مصر إلى مستورد صافٍ للغاز المسال لأول مرة منذ عام 2018، حيث استوردت 2.8 مليون طن خلال عام 2024، بينما تراجعت صادراتها من الغاز المسال بنسبة 84% إلى 0.54 مليون طن.

ساهم هذا التراجع في تفاقم أزمة انقطاع الكهرباء المتكررة، نظرًا لاعتماد 60% من المزيج الكهربائي المصري على الغاز الطبيعي، لتعويض النقص، زادت مصر اعتمادها على الواردات الإسرائيلية، حيث بلغت الكميات المستوردة من إسرائيل نحو مليار قدم مكعب يوميًا مع توقعات بارتفاعها إلى 1.07 مليار قدم مكعب يوميًا بحلول يناير 2025. يُتوقع أن يستمر هذا الاتجاه حتى عام 2027، وفقًا للخطط الحالية لسد الفجوة بين العرض والطلب.

 

من جهته يرى -أستاذ الاقتصاد السياسي- كريم العمدة حجم التجارة بين مصر وإسرائيل، فهو ليس كبيرًا جدًا، لكنه شهد ارتفاعًا ملحوظًا خلال العامين الماضيين. وفقًا لآخر بيانات متاحة عن عام 2023، فإن صادرات مصر إلى إسرائيل بلغت نحو 200 مليون دولار، بينما بلغت واردات مصر مليار و300 مليون دولار، ليصبح إجمالي حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو مليار ونصف دولار.

ويقول العمدة في حديث إلى زاوية ثالثة إن الزيادة الكبيرة في وارداتنا من إسرائيل ترجع بشكل أساسي إلى اتفاقية الغاز. ففي عام 2021 كانت وارداتنا من إسرائيل لا تتجاوز 75 مليون دولار، ثم ارتفعت إلى 850 مليون دولار في 2022، ووصلت إلى مليار و300 مليون دولار في 2023. مضيفًا: “من بين هذا الرقم، مليار و150 مليون دولار تمثل واردات الغاز الطبيعي فقط، الذي تستورده مصر من إسرائيل وتقوم بإسالته في محطتي إدكو ودمياط، ليُعاد تصديره لاحقًا لصالح إسرائيل ضمن اتفاقية تجارية منظمة.”

بالإضافة إلى ذلك، هناك اتفاقية “الكويز” بين مصر وإسرائيل، وهي اتفاقية تمنح الصادرات المصرية دخولًا إلى السوق الأمريكية دون رسوم جمركية، بشرط أن تحتوي على مكوّن إسرائيلي بنسبة لا تقل عن 11%. مثلًا، عند تصدير القمصان، تحتسب الياقات والأزرار ضمن هذه النسبة، أو في حالة تصدير بنطلونات الجينز، يُحتسب الحزام والسوستة ضمن النسبة ذاتها، على أن يُستكمل التصنيع في مصر، وفق العمدة.

ويشير العمدة إلى أنه رغم وجود تطبيع بين البلدين، إلا أن مصر لا تمضي فيه بخطى واس��ة كما تفعل بعض الدول مثل المغرب أو الإمارات. مصر تتعامل مع إسرائيل اقتصاديًا بحذر واستحياء، خصوصًا في ظل المخاوف الأمنية من أي اختراقات محتملة قد تقوم بها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية. ومن الناحية الاقتصادية، لا يمكن إنكار أن إسرائيل دولة صناعية متقدمة، خاصة في مجالات التكنولوجيا والبرمجيات والرقائق الإلكترونية، وهو ما يجعل هناك بعض الفوائد – للأسف – لمصر من هذا التعاون المحدود، على حد قوله.

لكن تبقى التوترات السياسية الدائمة، وإمكانية اندلاع حرب أو أزمة، عاملًا معيقًا لأي تطور حقيقي في العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وفق العمدة. ولهذا، فإن التطبيع القائم بين مصر وإسرائيل يمكن اعتباره شكليًا أكثر منه فعليًا أو استراتيجيًا. وعلى سبيل المقارنة، على سبيل المثال، يبلغ حجم التجارة بين إسرائيل وتركيا حوالي 7 مليارات دولار، وهو رقم يعكس حجمًا أكبر بكثير من العلاقات التجارية مقارنة بمصر.

 

نوصي للقراءة: معاناة غزة المستمرة.. عامٌ من الحرب المدمرة

ما أبرز المنتجات؟

كشف تحقيق مطول أجرته منصة “عربي بوست، قبل أيام، تقدم مصر إلى المرتبة الثانية بعد الإمارات من حيث عدد أصناف المنتجات (بحسب بلد المنشأ) التي صدّرتها إلى إسرائيل خلال الحرب على غزة، بين أكتوبر 2023 وفبراير 2025، حيث بلغ عدد أصناف المنتجات المُصدّرة 924 صنفاً، فيما بلغ عدد أصناف المنتجات التي صدّرتها الإمارات 1377 صنفاً. تتوزع على 76 منتجاً رئيسياً، من بينها منتجات غذائية (خضار، فواكه، توابل، حبوب، وسكر)، ومنتجات مطاحن الحبوب، وأسمنت، وأسمدة، ومنتجات صيدلانية، وقطن، وغيرها.

لّ قطاع منتجات المواد الداخلة في البناء والتشييد في المرتبة الأولى كأكثر المنتجات المصرية المُصدَّرة إلى الاحتلال الإسرائيلي، حيث بلغ حجم صادرات مصر من هذه المنتجات 265.6 مليون دولار خلال الفترة من أكت��بر 2023 وحتى فبراير 2025. وجاءت في المرتبة الثانية أصناف من المنتجات الغذائية والمشروبات، بقيمة صادرات بلغت 121.4 مليون دولار، وشملت هذه المنتجات: خضار وفواكه مصنّعة، ومنتجات من الحبوب أو الدقيق، ومنتجات من مطاحن الحبوب، إلى جانب مستحضرات غذائية متنوعة، وسكريات وحلويات سكرية، وكاكاو ومستحضراته، ومشروبات.

في المرتبة الثالثة ضمن قائمة المنتجات المصرية المُصدَّرة إلى إسرائيل جاءت المنتجات الكيميائية، تليها الآلات والمعدات المختلفة، كما برزت الملابس والمنسوجات والمفروشات كأحد الأصناف اللافتة ضمن الصادرات المصرية. ومن المنتجات الأخرى التي شحنتها مصر إلى إسرائيل أيضاً: منتجات صيدلانية بقيمة 636.7 ألف دولار، ومشروبات تشمل المياه المعدنية، إضافة إلى أصناف من الزيوت العطرية، ومستحضرات العطور والتجميل، وألعاب للأطفال، والملابس، والبلاستيك، والخشب، والورق.

على الجهة المقابلة، قدّمت البيانات الإسرائيلية تفاصيل حول الصادرات الإسرائيلية إلى مصر خلال الحرب على غزة، بين أكتوبر 2023 وفبراير 2025، حيث بلغ عدد أصناف المنتجات المُصدَّرة 165 صنفاً تندرج تحت 45 منتجاً رئيسياً. في مقدمة هذه المنتجات جاءت المواد الكيميائية المتنوعة المستخدمة في الصناعات النسيجية، بالإضافة إلى أقمشة، وأسمدة، وورق، وملابس. وشملت الصادرات أيضاً منتجات غذائية كمحاصيل من مطاحن الحبوب وتوابل، ومنتجات تدخل في صناعة الملابس. وبلغ إجمالي قيمة الواردات الإسرائيلية إلى مصر خلال تلك الفترة 466 مليون دولار، منها 327 مليون دولار للمنتجات الكيميائية، تليها منتجات الملابس والمنسوجات بقيمة 97.2 مليون دولار، ثم منتجات البلاستيك والمطاط والورق.

 

نوصي للقراءة: من الإسكندرية إلى تل أبيب: سفينة متفجرات تثير استياءً واسعًا ونفيًا عسكريًا

معبر نيتسانا وخطط التوسع اللوجستي

ضمن خطط التوسع المستقبلي، أعلنت القاهرة وتل أبيب عن نية تطوير معبر نيتسانا الحدودي ليكون محورًا لوجستيًا للتبادل التجاري غير النفطي. ويهدف المشروع إلى رفع قيمة التبادل إلى 700 مليون دولار سنويًا بحلول عام 2025، مع التركيز على التعاون في مجالات مثل الزراعة الذكية، التقنيات البيئية، والنقل المستدام. ويُنظر إلى معبر نيتسانا كأداة تسهيل لوجستية واستراتيجية، ستفتح المجال أمام مضاعفة حجم التجارة، وتوسيع قائمة المنتجات المتبادلة.

وتشير بيانات تتبع حركة السفن على موقعي   (MarineTraffic) و(Vesselfinde)، إلى حركة عشرات السفن من مصر إلى تل أبيب شهريًا، وتعد موانئ: أبو قير، العريش، بورسعيد، دمياط، والسويس، منافذ رئيسية لنقل البضائع من مصر إلى إسرائيل وفي الجانب الآخر تنشط عدة موانئ لاستقبال أو إرسال الحمولات أبرزها: أسدود وحيفا. وعادة ما ترفع هذه السفن رفعت أعلام دول متعددة، من بينها: بنما، ليبيريا، إسبانيا، سنغافورة، الدنمارك، سانت فينسنت والغرينادين.

 

(خريطة الموانئ التجارية المصرية، المصدر: قطاع النقل البحري واللوجستيات)
(خريطة الموانئ التجارية المصرية، المصدر: قطاع النقل البحري واللوجستيات)

وعلى الرغم من أن مواقع تتبع السفن لا تكشف دائمًا عن طبيعة الحمولة، فإن نوع السفينة غالبًا ما يقدّم مؤشراً حول ذلك. فبعضها مخصص لنقل الحاويات والمواد البترولية، وأخرى تنقل مواد البناء أو الفحم، إلا أن النسبة الأكبر من السفن التي تم رصدها تبدو مخصصة لنقل البضائع العامة والمواد الغذائية. من بين هذه السفن، السفينة Shira-e التي ترفع علم سانت كيتس ونيفيس، وقد أبحرت من ميناء العريش إلى ميناء أسدود في 9 سبتمبر الجاري.

أما المفاجأة الصادمة، بحسب ما نشره موقع “السفير العربي” فهي السفينة “Pan GG” التي ترفع العلم المصري، وتقوم برحلات منتظمة بين الموانئ المصرية وموانئ الاحتلال الإسرائيلي، ليس فقط منذ انطلاق عملية “طوفان الأقصى”، بل منذ عام 2020، تاريخ انتقال ملكيتها إلى مالك مصري. ووفقاً لبيانات موقع Marine Man المتخصص في تتبع السفن ومعلوماتها، فإن إدارة السفينة تقع في إحدى البنايات بحي مصر الجديدة في القاهرة، وهو ما يؤكد أن السفينة تُحمّل بضائع مصرية وتقوم بنقلها مباشرة إلى موانئ الاحتلال.

اتفاقيات تاريخية وتأثيرها على الاقتصاد المشترك

يرتكز التعاون الاقتصادي بين مصر وإسرائيل على اتفاقية السلام الموقعة في مارس 1979، والتي أرست أسس العلاقات الدبلوماسية والتجارية. ومن أبرز المحطات الاقتصادية في تاريخ العلاقات الثنائية كانت اتفاقية “المنطقة الصناعية المؤهلة” (QIZ) في منتصف العقد الأول من الألفية (2004)، والتي سمحت لمصر بتصدير منتجات إلى الولايات المتحدة بدون جمارك بشرط احتوائها على مكون إسرائيلي.

منذ ذلك الحين، شهدت العلاقات الاقتصادية بين البلدين تطورًا ملحوظًا في عدة مجالات، من بينها: المنسوجات، الآلات، المواد الكيميائية، الخضروات، والقطن. ولم تقتصر أوجه التعاون على التبادل التجاري فحسب، بل امتدت أيضًا إلى القطاع الزراعي، مع التركيز على مجالات مثل تنمية المناطق القاحلة، أنظمة الري، إنتاج الخضروات تحت الأغطية البلاستيكية، تصنيع اللقاحات البيطرية، وزراعة الفاكهة، لكن الصادرات الإسرائيلية إلى مصر قفزت من 50 مليون دولار سنويًا إلى أكثر من 200 مليون دولار خلال الفترة من 2011 إلى 2012. غير أن هذا الزخم تراجع لاحقًا، مع انخفاض واردات مصر من المواد الكيميائية والبلاستيكية، ليصل حجم الصادرات الإسرائيلية إلى أقل من 100 مليون دولار بحلول عام 2016.

بالتزامن، ومع توقف تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل في أعقاب ثورة يناير 2011، تراجعت الواردات الإسرائيلية من مصر بشكل كبير. فقد انخفضت القيمة الإجمالية لهذه الواردات إلى نحو 50 مليون دولار سنويًا بين عامي 2011 و2016. وكان التراجع الأبرز في واردات الكيماويات والبلاستيك والمنتجات المعدنية، التي انخفضت إلى نحو 15 مليون دولار فقط في عام 2016، نتيجة مباشرة لتوقف تصدير الغاز. ولم يتبقَّ من هذه الفئات سوى كميات بسيطة من المنتجات الكيميائية والبلاستيكية.

 

من ناحية أخرى، استمرت واردات المنتجات الزراعية والغذائية بمعدل ثابت تقريبًا، إذ تراوحت قيمتها بين 20 و30 مليون دولار سنويًا، بينما بلغت قيمة باقي الواردات نحو 20 مليون دولار.

وعمومًا يتصدر قطاع الطاقة قائمة العوامل المحفزة لتنامي العلاقات الاقتصادية بين البلدين. ففي ظل أزمة الطاقة التي تمر بها مصر منذ منتصف 2023، والتي أدت إلى انقطاعات كهرباء وصلت إلى ثلاث ساعات يوميًا خلال صيف 2024، برز الغاز الإسرائيلي كخيار استراتيجي لضمان استقرار شبكة الكهرباء.

ويُلاحظ أيضًا أن تعزيز العلاقات التجارية يتزامن مع جهود إقليمية أوسع لتعميق التعاون ضمن إطار اتفاقيات إبراهام، والتي فتحت الباب أمام تحالفات اقتصادية جديدة، تتجاوز المحاور التقليدية، وتُعيد تشكيل الخريطة الجيو-اقتصادية للمنطقة.

رغم المؤشرات الإيجابية اقتصاديًا، تواجه العلاقات التجارية بين مصر وإسرائيل انتقادات من قطاعات واسعة في الشارع المصري والعربي، خاصة في ظل استمرار الحرب على غزة وتفاقم الأزمة الإنسانية هناك. وتُعد مضاعفة الصادرات المصرية إلى إسرائيل خلال هذه الفترة موضع تساؤل أخلاقي وسياسي، يضع الحكومة المصرية تحت مجهر الرأي العام المحلي والدولي.

كذلك، تثير خطط التوسع في الاستيراد من إسرائيل، خاصة في مجال الطاقة، مخاوف من تعميق التبعية الاقتصادية، وتقليص قدرة مصر على التحكم في مصادرها السيادية، في وقت تحتاج فيه الدولة إلى تعزيز إنتاجها المحلي من الغاز والطاقة.

إلى ذلك يشير الخبير الاقتصادي ونائب رئيس حزب التحالف الشعبي إلهامي الميرغي، إلى أن ذاكرة الشعوب لا تنسى ولا تقبل التعامل التجاري مع دولة الاحتلال، مستنكرًا أن تسجل العلاقات التجارية بين مصر والعدو الصهيوني أعلي معدلاتها خلال الثلاث سنوات الأخيرة رغم طوفان الأقصى والضحايا والجرحى وحرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني. ويضيف في حديثه إلى زاوية ثالثة أنه من المؤسف وفي ظل تصفية الشعب الفلسطيني وحصاره تتوسع مص�� وبعض الدول العربية مثل الإمارات والمغرب والأردن في التبادل التجاري مع العدو الصهيوني.

ويوضح الميرغني أن تطور حجم التبادل التجاري من 127 مليون دولار عام 2020 إلى 190.8 مليون دولار عام 2021 ثم حدثت طفرة في التبادل التجاري بلغت 2.1 مليار دولار في 2022 و2.6 مليار دولار في 2023 ووصلت الي 3.2 مليار دولار في 2024. ولازالت هناك فرص لزيادة حجم التبادل التجاري في ظل اعتماد مصر على استيراد الغاز من إسرائيل واعلانها عن السعي لزيادة واردات الغاز الإسرائيلي بنسبة 58%، من مستواها الحالي البالغ 950 مليون قدم مكعب يوميًا، وذلك اعتبارًا من النصف الثاني من العام الجاري، من أجل تأمين احتياجات البلاد خلال أشهر الصيف.

ووفقا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء سجل حجم التبادل التجاري بين مصر وإسرائيل ارتفاعًا ملحوظًا خلال العام الماضي 2024، إذ زاد بنسبة 21.3%، وتظهر البيانات أن الغضب الشعبي والرسمي المصري من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي راح ضحيتها نحو 48 ألف فلسطيني، لم ينعكس على التبادل التجاري، الذي بلغ 3.2 مليار دولار في 2024، مقابل 2.64 مليار دولار في 2023.

 وارتفعت قيمة واردات مصر من إسرائيل خلال العام الماضي بنسبة 17%، من 2.5 مليار دولار في 2023، إلى 2.9 مليار دولار في 2024.  فيما زادت قيمة صادرات مصر إلى إسرائيل بنسبة 95.6%، بعدما بلغت 284 مليون دولار خلال العام الماضي، مقارنة بـ 145 مليون دولار في 2023.

ويقول الخبير الاقتصادي والسياسي المصري في حديثه معنا: “توجد عشرات الشركات المتورطة في التبادل التجاري مع العدو الصهيوني مثل شركة قطونيل مصر فريش إلكتريك، إيفرجرو، قنديل للزجاج، جرين لاند إنترناشيونال: للأغذية المجمدة، مصر للرخام والجرانيت إلى جانب ذلك، تضمنت القائمة شركات أخرى مثل “النيل للزيوت والمنظفات”، “مصر للكيماويات”، “سامسونج إلكترونيكس مصر”، وراية فودز”. وعدد اخر من الشركات وذلك بجانب شركات الكويز.

كما أعلنت شركة “أوشين نيتوورك إكسبرس” (Ocean Network Express) اليابانية، ومقرها سنغافورة، عن خدمة نقل أسبوعية جديدة في إسرائيل تربط ميناء دمياط في مصر بميناءي حيفا وأسدود في شرق البحر المتوسط.

 في خضم الصراع السياسي المحتدم، والمواقف الشعبية الرافضة لأي شكل من أشكال التطبيع، تبرز العلاقات التجارية بين مصر وإسرائيل كمشهد استثنائي يتحدى المنطق التقليدي في فهم العلاقات بين الدول. فالأرقام تروي قصة مغايرة، حيث يفرض الواقع الاقتصادي منطقه، مدفوعًا بالحاجة الماسة إلى الطاقة والعملات الأجنبية، والتزامات استراتيجية قديمة جديدة لا تتأثر كثيرًا بتقلبات السياسة أو عواطف الشارع. وبينما يبقى التطبيع الرسمي محدودًا وحذرًا، يواصل قطار التجارة مساره في صمت، متجاوزًا الشعارات، ومرسّخًا لنمط جديد من العلاقات الإقليمية، تحكمه المصالح الباردة أكثر من المبادئ.

Search