نزيف الهيئات الاقتصادية المصرية: الحكومة تدعم الخسائر وتُهمِل الإصلاح

تُظهر بيانات رسمية أن خسائر الهيئات الاقتصادية في مصر تجاوزت 250 مليار جنيه، ما يهدد الم��ازنة العامة ويُضعف الإنفاق على الصحة والتعليم في ظل غياب إصلاح هيكلي حقيقي.
Picture of رشا عمار

رشا عمار

بلغ حجم الخسائر الإجمالية للهيئات الاقتصادية بمصر خلال السنوات الأخيرة، ما يقارب 236.7 مليار، وفق تصريحات رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بينما تشير تقديرات أخرى تجاوز الرقم 250 مليار، وفي آخر التحديثات، تشير أحدث بيانات موازنة العام المالي الجديد التي ناقشها البرلمان قبل أيام،  إلى توقع تسجيل خسائر في نشاطها خلال العام المالي 2025/2026 بقيمة تصل إلى 79.8 مليار جنيه، حيث تتصدر الهيئة القومية للأنفاق الخسائر بقيمة 44.3 مليار جنيه، تليها الهيئة الوطنية للإعلام بخسائر تبلغ 17.1 مليار جنيه، بينما تبلغ خسائر باقي الهيئات 18.4 مليار جنيه.

شهدت الهيئات الاقتصادية في مصر تفاقمًا كبيرًا في حجم الخسائر المتراكمة خلال السنوات الأخيرة، ما شكل عبئًا متزايدًا على الموازنة العامة للدولة، وأثر على حق المواطن في الدعم، فضلًا عن تآكل مخصصات الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم، وتهاوي مخصصات البنية التحتية. في العام المالي 2022/2023، قدر الجهاز المركزي للمحاسبات هذه الخسائر بنحو 236.7 مليار جنيه، مع تسجيل صافي علاقة سلبية بين هذه الهيئات والموازنة بقيمة 170 مليار جنيه، نتيجة تقديم إعانات بلغت 354.6 مليار جنيه في مقابل إيرادات لم تتجاوز 184.9 مليار جنيه، وقد كشفت هذه الأرقام عن خلل هيكلي عميق في أداء العديد من الكيانات الاقتصادية المملوكة للدولة.

وفي العام التالي (2023/2024)، تجاوزت الخسائر المسجلة 250.7 مليار جنيه بحسب تصريحات حكومية، في حين أشارت تقارير برلمانية إلى أن الخسائر المتراكمة حتى منتصف العام 2024 بلغت نحو 233 مليار جنيه، وهو ما يعكس استمرار النزيف المالي دون حلول جذرية فعالة. أما في مشروع موازنة العام 2025/2026، فقد أظهر البيان المالي الرسمي تسجيل خسائر وعجز بلغ 79.8 مليار جنيه لدى عدد من الهيئات، إلى جانب تراجع أرباح قطاعي الصناعة والبترول بنسبة تصل إلى 37.6% خلال ثلاث سنوات، ما يعكس تدهورًا تدريجيًا في عوائد قطاعات كانت تعتبر ركيزة للاقتصاد الوطني.

وتعرف الهيئات الاقتصادية بأنها كيانات عامة ذات شخصية اعتبارية مستقلة، تنشأ بقانون أو بقرار جمهوري بهدف إدارة مرافق عامة أو مباشرة أنشطة اقتصادية وخدمية تحقق عائداً للدولة، تتمتع بسلطات واسعة في إدارة شؤونها الفنية والمالية والإدارية، وتقدم خدماتها بمقابل، ويعد مجلس إدارتها هو صاحب السلطة في وضع السياسات العامة وإدارة الموارد، كما أن لها موازنات مستقلة تُقر من مجلس النواب، وتقتصر علاقتها بالموازنة العامة للدولة على تحويل الفوائض أو تلقي الدعم عند الحاجة

ويبلغ عدد الهيئات الاقتصادية في مصر حالياً 59 هيئة موزعة على 12 قطاعاً رئيسياً، ويستحوذ قطاع النقل على أكبر عدد منها (10 هيئات)، تليه قطاعات الطاقة والكهرباء، والصحة والخدمات الدينية، والصناعة والبترول، والزراعة والري. من أبرز هذه الهيئات: الهيئة القومية لسكك حديد مصر، هيئة قناة السويس، الهيئة القومية للأنفاق، الهيئة الوطنية للإعلام، الهيئة العامة للبترول، هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، الهيئة القومية للبريد، والجهاز القومي لتنظيم الاتصالات، تلعب هذه الهيئات دوراً محورياً في الاقتصاد المصري، إلا أن أداءها المالي يختلف من هيئة لأخرى، حيث تحقق بعض الهيئات أرباحاً كبيرة بينما تعاني أخرى من خسائر متراكمة.

 

نوصي للقراءة: الحكومة الجديدة بين إرضاء الدائنين ومعيار الولاء والطاعة

 

السكة الحديد والوطنية للإعلام بالمقدمة

تتحمل 16 هيئة فقط من إجمالي 59 هيئة اقتصادية العبء الأكبر من هذه الخسائر، وتبرز من بينها الهيئة الوطنية للإعلام وهيئة السكك الحديدية، اللتان تواجهان تحديات هيكلية مزمنة أدت إلى تآكل مداخيلهما واعتماد شبه كامل على دعم الدولة.

يرجع المراقبون هذه الخسائر إلى عدة أسباب، في مقدمتها اختلال التوازن بين التكاليف والأسعار، وهو ما أدى إلى تآكل الهوامش الربحية. كما ساهمت القروض غير المدروسة، وتأخر تنفيذ العديد من المشروعات، في زيادة الأعباء المالية على الهيئات. يُضاف إلى ذلك الإعفاءات المتكررة من سداد القروض، والتي ساهمت في تضخم رؤوس الأموال على الورق، دون أن يقابلها أصول حقيقية منتجة، مما أفرز هياكل مالية هشة وغير قادرة على تحقيق الاستدامة.

في السياق يرى -منسق الحركة المدنية وعضو المجلس الرئاسي لحزب المحافظين-، طلعت خليل، أن العلاقة بين الخزانة العامة والهيئات الاقتصادية تشوبها اختلالات خطيرة، حيث لم تعد هذه الهيئات ترفد الموازنة العامة بإيرادات كما هو مفترض، بل أصبحت عبئًا ماليًا عليها، مؤكدًا أن ما يُصرف من الخزانة العامة للهيئات الاقتصادية يفوق بكثير ما يدخل إليها منها، وهو ما يُعد أحد الأسباب الرئيسية لتفاقم العجز.

ويوضح “خليل” في هذا السياق أن هناك تفاوتًا كبيرًا في أداء الهيئات الاقتصادية؛ فبينما تحقق بعض الهيئات مثل هيئة البترول أرباحًا، فإن هذه الأرباح لا تعكس الواقع الحقيقي لأنها أرباح خادعة، بينما توجد هيئات خاسرة بشكل واضح مثل الهيئة الوطنية للإعلام، وهيئة السكة الحديد، وهيئة المعارض، مشيرًا إلى أن بعضها خسر بسبب قرارات إدارية متعمدة – حسب وصفه – وليس لعجز طبيعي.

ويشير خليل في حديثه معنا إلى أن الهيئة الوطنية للإعلام، على سبيل المثال، تحولت من كيان اقتصادي إلى ما يشبه هيئة خدمية دون إعلان رسمي بذلك، إذ تُكلف بتغطية الفعاليات الرسمية الحكومية بكوادرها وكاميراتها دون أن يُسمح لها بتسويق أو بيع هذه المواد، وبالتالي لا تُدر دخلًا يعوّض التكلفة. “كنت أنادي منذ سنوات بتحويلها إلى هيئة خدمية بوضوح بدلاً من استمرار تحميلها مهامًا دون عائد، ما جعلها اليوم غير قادرة حتى على دفع مرتبات موظفيها”، بحسب خليل.

بالإضافة إلى ذلك يلفت خليل إلى تراجع دور الهيئة الاقتصادية للمساحة، التي سُحب منها عملها لحساب هيئة المساحة العسكرية، ما أفقدها مصادر دخلها، وكذلك هيئة المعارض، التي تراجعت بعد أن تم إنشاء هيئة بديلة، مؤكدًا أن هناك تغييبًا متعمّدًا لبعض أدوار الهيئات لصالح جهات أخرى، ما أدى إلى خسائر حتمية لها.

وعن هيئة السكة الحديد، اعتبر خليل أنها تعاني من مشكلات مركبة، إذ تُكبّل بقروض مستمرة لتطويرها، دون أن يكون هناك تطوير فعلي في أهم عنصر يمكن أن يحقق أرباحًا، وهو نقل البضائع. وأكد أن نقل الركاب في كل دول العالم لا يحقق أرباحًا حقيقية، باستثناء خطوط النوم والفاخرة، وأن العائد الحقيقي يكون من نقل البضائع، وهو ما فشلت الهيئة المصرية في تطويره حتى الآن، بحسب قوله. مضيفًا أن معظم القروض تذهب إلى مشروعات ضخمة مثل القطار السريع، بينما يُترك المرفق القديم يعاني من الإهمال، ما يُعمّق الأزمة بدلًا من حلها.

وتوسعت هيئة السكة الحديد بالاقتراض خلال السنوات الخمس الماضية، وفقًا لتصريحات رسمية، أعلنت الهيئة في أغسطس 2024 عن سداد ديون وقروض سابقة بقيمة 90 مليار جنيه (تراكمت منذ عقود)، لكنها استمرت في الاقتراض لدعم خططها الاستثمارية. في سبتمبر 2024، تفاوضت الهيئة مع 25 بنكًا محليًا للحصول على قرض بقيمة 17 مليار جنيه، حيث حصلت على 8 مليارات جنيه كشريحة أولى عبر بنك قطر الوطني في ديسمبر 2024، بينما تُسعى لاستكمال المبلغ المتبقي. كما أبرمت اتفاقية قرض بقيمة 250 مليون يورو من البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية لتحويل خط أبو قير إلى مترو كهربائي، والذي نُشر في الجريدة الرسمية في أغسطس 2024. في فبراير 2025، حصلت على قرض إضافي بقيمة 5 مليارات جنيه من بنك حكومي بضمان وزارة المالية لاستكمال مشروعاتها.

كذلك شدد خليل على ضرورة إعادة النظر في تقييم الهيئات الاقتصادية وجدواها، وتحديد طبيعتها الحقيقية: “إما هيئات اقتصادية تُدر دخلًا للدولة، أو خدمية تقدم خدماتها بدون انتظار أرباح، لكن لا يصح أن تستمر بهذا الشكل الهجين الذي لا يخدم الدولة ولا المواطن”.

 

نوصي للقراءة: كل ما نعرفه عن إمبراطورية «الجيش المصري» الاقتصادية

لماذا تخسر الهيئات الاقتصادية؟

الدكتور محمود الجرف، -الخبير في الاقتصاد الدولي-، يقول في حديث إلى زاوية ثالثة إن خسائر الهيئات الاقتصادية في مصر ليست مجرد ظاهرة عابرة، وإنما نتيجة تراكُم مشكلات هيكلية مزمنة تتطلب معالجة جادة وشاملة. موضحًا أن السبب الأول والرئيسي يتمثل في ضعف الحوكمة وسوء الإدارة، حيث تعاني العديد من الهيئات من غياب واضح في التخطيط الإستراتيجي، وانعدام آليات فعالة للمراقبة والتقييم، وهي أدوات ضرورية لوضع خطة تشغيلية تضمن رفع الكفاءة وتعزيز الربحية وتقليل الخسائر.

ويؤكد الجرف في حديثه معنا أن هناك ترهلاً إداريًا يعاني منه عدد كبير من هذه المؤسسات، مشيرًا إلى تضخم  عدد العاملين مقارنة بحجم الإنتاجية الفعلية، ما يجعل الكُلفة البشرية عبئًا إضافيًا دون مردود حقيقي يُوازي هذا التضخم في الموارد البشرية.

وأشار إلى أن من بين الأسباب الجوهرية أيضًا ارتفاع التكاليف التشغيلية، خاصة في ظل الزيادات المستمرة في أسعار الوقود والكهرباء والخدمات، الأمر الذي ينعكس بشكل مباشر على الهيئات ذات الطابع الخدمي كالنقل والمرافق. وأضاف أن اعتماد بعض الهيئات على معدات وتقنيات متهالكة يزيد من استهلاك الطاقة ويُضاعف من نفقات الصيانة.

ويلفت الجرف إلى أن هناك هيئات تقدم خدماتها بأقل من التكلفة الفعلية، انطلاقًا من دورها المجتمعي، لكنها في الوقت نفسه تفتقر إلى المهارات التسويقية التي تمكّنها من تحقيق عوائد مجزية، خاصة عند المقارنة مع القطاع الخاص الذي يتمتع بمرونة عالية في الترويج للمنتجات والخدمات.

ويضيف أن تراكم الديون من أبرز الأزمات التي تواجه بعض الهيئات، مشيرًا إلى أن المؤسسات الكبرى في البنية التحتية مثل الهيئة القومية للأنفاق أصبحت مثقلة بفوائد قروض ضخمة، ومع ذلك تستمر في الاعتماد على الاقتراض كحل مؤقت بدلاً من الاتجاه نحو التمويل الذاتي أو الدخول في شراكات استثمارية تضمن الاستدامة.

ويشدد الجرف على أن غياب البنية التكنولوجية الحديثة يُعد من عوامل الإخفاق الأساسية، إذ إن كثيرًا من الهيئات لا تزال تعمل بأنظمة تقليدية تفتقر إلى مقومات الرقمنة والذكاء الاصطناعي، وهو ما يؤدي إلى تراجع الكفاءة وضعف الشفافية ويعوق سرعة اتخاذ القرار.

ويؤكد الجرف على أن غياب الرؤية الاستثمارية الواضحة هو عامل حاسم في استمرار الخسائر، موضحًا أن هناك تأخرًا في اتخاذ قرارات حاسمة مثل إعادة الهيكلة أو دمج الهيئات المتشابهة في النشاط، فضلاً عن غياب خطة لتحويل هذه الهيئات إلى كيانات إنتاجية تحقق ربحًا أو تجذب استثمارات حقيقية. وأضاف: “ما لم تُعالَج هذه المشكلات بشكل جذري، فستظل الخسائر تتراكم عامًا بعد آخر.”

نوصي للقراءة: تأثير الفقر على وفيات الأطفال

كيف تؤثر الخسائر عل المواطن؟

تمثل خسائر الهيئات الاقتصادية واحدة من أبرز التحديات التي تُلقي بظلالها الثقيلة على الاقتصاد بوجه عام، إذ تتجاوز آثارها المالية مجرد العجز في دفاتر هذه الكيانات، لتطال الموازنة العامة، والخدمات الاجتماعية، والمعيشة اليومية للمواطن، فضلاً عن تعميق اختلالات هيكلية تؤثر على فرص النمو والاستثمار، كما تُجبر الحكومة على تخصيص مبالغ ضخمة لإعانات ودعم الهيئات الخاسرة، كما حدث في العام المالي 2022/2023، حين بلغت تلك المنح والإعانات نحو 452 مليار جنيه، وهو ما يفاقم من عجز الموازنة ويقلل من مرونة الدولة في الإنفاق على أولويات التنمية. بدلًا من توجيه أي فوائض مالية نحو قطاعات حيوية كالصحة والتعليم والبنية التحتية، تُستهلك تلك الموارد في تغطية عجز هيئات مثل الهيئة الوطنية للإعلام أو الهيئة القومية للأنفاق، ما يحرم الاقتصاد من عوائد استثمارية مستدامة.

وفي السياق توضح تغريد بدرالدين -مدرس الاقتصاد المساعد كلية السياسة والاقتصاد بجامعة بني سويف-  في حديث إلى زاوية ثالثة أنه رغم ما أعلنه نائب وزير المالية، أحمد كجوك، من تحسن في مؤشرات الاقتصاد الكلي خلال الأشهر التسعة الماضية، إلا أن ملف الهيئات الاقتصادية لا يزال يُمثل نقطة ضعف هيكلية في بنية المالية العامة، ويشكّل أحد أهم مصادر الضغط على عجز الموازنة.

وتضيف: “تشير بيانات مشروع الموازنة للعام المالي 2025/2026 إلى أن خسائر الهيئات الاقتصادية لا تزال مستمرة دون تقديم حلول جذرية من جانب الحكومة، حيث لم يُعلن حتى الآن عن أي خطة واضحة لإعادة هيكلة أو إصلاح هذه الكيانات. ويُظهر البيان المالي أن الدولة خصصت تحويلات ضخمة لدعم تلك الهيئات، دون ربط هذا الدعم بتحسن ملموس في أدائها المالي أو الخدمي.”

وتقول تغريد: “تبرز في مقدمة الهيئات الخاسرة الهيئة القومية للأنفاق، والتي سجلت خسائر تتجاوز 44 مليار جنيه، الهيئة الوطنية للإعلام، بخسائر تُقدّر بأكثر من 17 مليار جنيه، هيئة السكك الحديدية، التي تستمر في الاعتماد على دعم مباشر يبلغ 5.5 مليار جنيه سنويًا، رغم تدهور مستوى الخدمات، الهيئة العامة للبترول، التي تحصل على دعم ضخم (يتجاوز 119 مليار جنيه) مع تحقيق فائض متواضع للغاية، ما يعكس تشوهًا في العلاقة بين الدعم والإنتاجية”.

وتؤكد تغريد أن استمرار هذه الخسائر يرتبط بثلاثة أسباب رئيسية: أولا: غياب الحوكمة وضعف نظم الرقابة والمتابعة داخل الهيئات، ما يؤدي إلى تآكل الإيرادات وارتفاع النفقات دون ضبط مالي فعّال. ثانيا: تشوهات تسعير الخدمات، خاصة في قطاعات النقل والطاقة والإعلام، حيث تُقدّم الخدمات بأسعار أقل من تكلفتها الحقيقية دون تعويض فعال. ثالثا: ضعف الإرادة التنفيذية لإجراء الإصلاح المؤسسي، رغم إعلان الحكومة تبني موازنة البرامج والأداء كمنهجية جديدة.

تقول تغريد: “عدم التصدي لهذه الخسائر بشكل حاسم يُفقد الموازنة العامة قدرًا كبيرًا من الفاعلية. فعلى الرغم من استهداف فائض أولي يبلغ 807 مليار جنيه (بنسبة 4% من الناتج المحلي الإجمالي) وخفض العجز الكلي إلى 7.3% بنهاية يونيو 2026، فإن نزيف الهيئات الاقتصادية يهدد بعرقلة هذه الأهداف، كما يؤدي إلى إهدار الفرص في إعادة تخصيص الموارد نحو القطاعات الأكثر كفاءة م��ل التعليم والصحة والاستثمار العام.”

تُظهر أحدث البيانات أن نصيب الهيئات الاقتصادية من الدين العام في مصر يُمثّل عبئًا لا يُستهان به على المالية العامة، حيث يُقدّر إجمالي الدين العام في موازنة 2024/2025 بنحو 17.4 تريليون جنيه، أي ما يعادل 101% من الناتج المحلي الإجمالي، منها نحو 15 تريليون جنيه لأجهزة الموازنة العامة، و2.3 تريليون جنيه للهيئات الاقتصادية وحدها، ما يشكل 13.2% من إجمالي الدين العام. وبحسب الموازنة الموحدة، فإن إجمالي ديون الحكومة العامة (الموازنة العامة + الهيئات الاقتصادية) يُقدر بنحو 16.4 تريليون جنيه، بنسبة 96.4% من الناتج المحلي، بينما يُعتقد أن نصيب الهيئات الاقتصادية من هذا المبلغ يصل إلى نحو 1.4 تريليون جنيه، ما يشير إلى تفاوت بين الأرقام الظاهرة في البيان المالي وتلك المدرجة ضمن الموازنة الموحدة، ويرجّح أن يكون هذا التفاوت ناتجًا عن اختلاف تصنيف الديون ما بين خارجية ومحلية ومضمونة من الخزانة.

أما بالنسبة للديون الخارجية، فتُظهر الأرقام أن ديون الهيئات الاقتصادية الخارجية تبلغ نحو 1.8 تريليون جنيه، أي ما يعادل 16% من الناتج المحلي الإجمالي، وتُشكل نحو 37% من إجمالي الديون الخارجية لمصر، والتي تبلغ حوالي 168 مليار دولار. وتُعد الهيئة العامة للبترول، وهيئة المجتمعات العمرانية، والهيئة القومية للأنفاق من أبرز الجهات المدينة، حيث تستحوذ مجتمعة على 82% من القروض المضمونة من وزارة المالية. ورغم أن ديون هيئة السكك الحديدية لا تُدرج صراحة ضمن بيانات الدين العام، إلا أنها تحصل على قروض مضمونة، ما يعني ضمنيًا تحميل الخزانة العامة مزيدًا من الالتزامات المستقبلية.

وتلفت مدرس الاقتصاد بجامعة بني سويف تغريد بدر الدين إلى أن استمرار تحويل هذه الخسائر إلى “كلفة اجتماعية” مموّلة من الخزانة العامة، دون مراجعة جادة للأداء المؤسسي، يُضعف الثقة في جدية السياسات المالية. وهذا يتعارض مع ما أشار إليه السيد كجوك من “شراكة ثقة بين الدولة ومجتمع الأعمال”، إذ لا يمكن بناء هذه الثقة في ظل غياب المساءلة عن أداء الهيئات العامة.

ويعكس ذلك ضرورة إجراء إصلاح هيكلي حقيقي لهذه الكيانات، ي��مل: إعادة هيكلة الكيانات الخاسرة أو دمجها أو تصفيتها، تسعير اقتصادي للخدمات العامة، توسيع قاعدة الشراكة مع القطاع الخاص، وربط أي تمويل حكومي بمؤشرات أداء حقيقية ضمن إطار موازنة البرامج والأداء، مشيرةً على أن الموازنة الجديدة تُعد اختبارًا حقيقيًا لمدى التزام الدولة بتحقيق كفاءة واستدامة مالية. ولا يمكن لأي إصلاح اقتصادي أن يكتمل دون معالجة جذرية لوضع الهيئات الاقتصادية.

الفقر يتوحش مع تراكم الديون

تشير البيانات الحكومية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى أن نسبة الفقر في مصر بلغت 29.7% عام 2020، وهو ما يعادل نحو 30 مليون فرد استنادًا إلى تعداد السكان وقتها. وتعتمد الحكومة المصرية على خط فقر محلي قُدّر بنحو 856 جنيهًا شهريًا للفرد، بينما يُحدد خط الفقر المدقع عند 550 جنيهًا شهريًا، أي لمن لا يستطيعون تلبية الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية.

في المقابل، تشير تقديرات البنك الدولي لعام 2024 إلى أن نحو 60% من المصريين يعيشون تحت خط الفقر أو على حافته، أي ما يعادل نحو 63 مليون شخص من أصل 106 ملايين نسمة. وتعتمد هذه التقديرات على المعيار الدولي للفقر البالغ 2.15 دولارًا يوميًا، والذي يعادل نحو 107 جنيهات وفق سعر الصرف الحالي. ويرتبط هذا الارتفاع الكبير في نسبة الفقر بموجة التضخم الحادة التي بلغت 35.7% في فبراير 2024، ما أدى إلى تآكل القوة الشرائية ودفع مزيد من المواطنين إلى هوة الفقر. تعكس هذه التقديرات اتساع الفجوة بين الخطاب الرسمي والواقع المعيشي اليومي للمصريين.

 

يعود التباين الكبير بين الأرقام الرسمية والتقديرات الدولية إلى اختلاف تعريفات خط الفقر وأدوات القياس؛ فبينما تعتمد الحكومة على مؤشرات محلية تشمل الإنفاق على الغذاء والتعليم، يستخدم البنك الدولي معيارًا موحدًا عالميًا يركز على القدرة على تلبية الحاجات الأساسية بمستوى حد أدنى من الدخل. كما أن آخر بحث حكومي للدخل والإنفاق صدر عام 2020، ما يجعله غير كافٍ لتوصيف المشهد الراهن بعد سنوات من الأزمات المتلاحقة. وفي الوقت الذي تقدر فيه وزارة التضامن الاجتماعي وجود 12 مليون أسرة فقيرة (بما يعادل نحو 48 إلى 60 مليون مواطن)، فيما تشير التقارير إلى أن الصعيد هو الأكثر تضررًا، حيث تتجاوز نسبة الفقر 66% في بعض المحافظات، بينما تنخفض إلى أقل من 15% في مناطق حضرية مثل بورسعيد والإسكندرية.

وبينما يتوحش الفقر، وتتراكم الديون تواجه الهيئات الاقتصادية في مصر أزمة مالية عميقة تُنذر بتداعيات خطيرة على الموازنة العامة والاستقرار الاقتصادي، إذ لم تعد هذه الكيانات قادرة على أداء دورها التنموي أو تحقيق عوائد مالية للدولة، وتقف الحكومة عاجزة عن إيجاد حلول. إذ تعكس الأرقام الصادرة عن الأجهزة الرقابية والبرلمان مدى عمق الاختلالات البنيوية في الإدارة والحوكمة داخل هذه الهيئات، وسط استمرار الاعتماد على القروض والدعم الحكومي دون إصلاحات هيكلية حقيقية.

بالإضافة إلى ذلك، غياب الرؤية الإستراتيجية والتمييز بين الطابع الخدمي والاقتصادي لهذه الكيانات يُنتج نموذجًا هجينًا يعجز عن تحقيق الاستدامة أو حتى الحد من الخسائر. ومع تفاقم العجز وغياب المحاسبة الجادة، فإن الحاجة باتت مُلحّة لإعادة تقييم شاملة لأدوار هذه الهيئات، ووضع سياسات إصلاحية شفافة تستند إلى الكفاءة والمساءلة، قبل أن تتحول هذه الكيانات إلى عبء دائم يهدد بنية الدولة المالية والتنموية.

 

رشا عمار
صحفية مصرية، عملت في عدة مواقع إخبارية مصرية وعربية، وتهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية.

Search