كثّفت الحكومة المصرية حضورها على منصات التواصل الاجتماعي، في ظل تزايد اعتماد المواطنين على هذه المنصات كمصدر رئيسي للأخبار، متفوقةً على الصحافة الورقية والمواقع الإخبارية التقليدية من حيث سرعة الانتشار والتفاعل. ومع هذا التحول، أصبحت الحسابات الرسمية للوزارات والهيئات الحكومية، وفي مقدمتها المركز الإعلامي لمجلس الوزراء، الأداة الأساسية للدولة في مخاطبة الرأي العام والتفاعل مع الجدل الدائر.
منذ بداية عام 2025، تبنّت الحكومة نمطًا ثابتًا في التعامل مع القضايا المثيرة للجدل، يقوم على إصدار بيانات تبدأ غالبًا بعبارة “لا صحة لما تم تداوله…” وتنتهي بنفي قاطع للمعلومات المتداولة. غير أن هذا النفي، في الغالب، لا يُرفق بأي إعلان عن فتح تحقيق مستقل، ولا يتضمن أدلة أو معلومات مفصلة تفند مضمون الادعاءات المتداولة. وفي كثير من الحالات، يُستخدم وصف “شائعة” كتصنيف جامع لكل رواية مغايرة للرواية الرسمية، دون تقديم توضيحات أو بدائل دقيقة للمعلومات المنفية.
وفي الفترة من 1 يناير إلى 31 مايو 2025، رصدت “زاوية ثالثة” ما لا يقل عن 25 بيان نفي رسمي، صدرت عن المركز الإعلامي وعدد من الوزارات، تصدرتها وزارة الداخلية من حيث عدد البيانات. وقد تزامن صدور هذه البيانات مع وقائع أثارت نقاشًا عامًا واسعًا، في تفاعل سريع من الجهات الرسمية مع ما يُنشر على المنصات الرقمية.
من بين هذه الحالات، جاء الجدل حول “عسل النحل المغشوش” ليوضح كيف يُوظَّف النفي الرسمي في إدارة الجدل دون اللجوء إلى أدوات التحقق المستقلة. فعقب تداول مقطع مصور لشابين يزعمان فيه أن غالبية منتجات العسل في السوق المحلي غير مطابقة للمواصفات القياسية، سارع المركز الإعلامي إلى إصدار بيان ينفي فيه صحة ما ورد بالفيديو، دون الإعلان عن سحب عينات أو إجراء اختبارات عبر جهات رقابية معتمدة.
البيان، الذي اكتفى بتوصيف ما ورد بالمقطع بوصفه “غير علمي”، اعتمد على إفادة من هيئة سلامة الغذاء مفادها أن “الطريقة المستخدمة في التحليل غير سليمة”، بسبب نقل العيّنات من عبواتها الأصلية إلى أخرى مجهولة. ومع ذلك، لم يُقدَّم تحليل بديل يُجريه مختبر رسمي، ولم تُعلن نتائج تؤكد سلامة المنتجات المتداولة.
بالتوازي، تقدم النائب أيمن محسب، عضو مجلس النواب، بطلب إحاطة عاجل بشأن ما وصفه بانتشار ظاهرة غش العسل في الأسواق المصرية، مطالبًا بإجراء فحوصات عاجلة على المنتجات، وإعلان نتائجها بشفافية للرأي العام، وسحب المخالف منها، مع توقيع عقوبات رادعة على الجهات المسؤولة عن المخالفات، إن وُجدت.
نوصي للقراءة: حادثة النجيلة: ضابط الأمن الوطني المتهم بقتل شابين لم يخضع للتحقيق بعد
أزمة “البنزين المغشوش” من الإنكار إلى الإقرار
في مطلع مايو الماضي اشتعلت منصّات التواصل بشكاوى مواطنين من محافظات عدّة عن أعطال مفاجئة لحقت بسياراتهم عقب التزوّد بالوقود من محطات محدّدة، ما أثار شبهة وجود «بنزين مغشوش». وردًّا على ذلك، أصدر المركز الإعلامي لمجلس الوزراء بيانًا يؤكّد أنّ الوقود «مطابق للمواصفات القياسية» نافيًا أي تلاعب، من غير إعلان عن تحقيق مستقل أو سحب عينات للفحص عبر جهة رقابية محايدة. وسارت الشعبة العامة للمواد البترولية بالاتحاد العام للغرف التجارية بالاتجاه نفسه، إذ صرّحت بأنّها لم تتلقّ شكاوى عن وقود غير مطابق، وأنّ تواصلها مع شركات التوزيع لم يكشف مخالفات، الأمر الذي فاقم تشكيك الفنيين والمواطنين.
غير أنّ وزارة البترول تراجعت خلال أقل من أسبوع مقِرّةً في بيان رسمي بوجود خلل في شحنات «محدودة» وُزّعت ببعض المحطات، فأعلنت سحب الكميات المتأثّرة وفتح تحقيق داخلي بعد تزايد شكاوى رصد شوائب وروائح نفّاذة في الوقود تسبّبت ـ حسب فنيين ـ في أعطال لمضخّات ومحركات السيارات. وأقرّت الوزارة تلقّي 870 شكوى رسمية بين 4 و9 مايو، وفحص 807 عينات جُمِعت من مختلف المحافظات بالتعاون مع وزارتي البترول والتموين ومعامل تحليل محايدة؛ فجاءت 802 عيّنة مطابقة مقابل خمس عينات غير مطابقة.
على المستوى البرلماني، قدّمت النائبة الدكتورة مها عبد الناصر طلب إحاطة موجّهًا إلى رئيس مجلس الوزراء ووزيري البترول والتموين، أشارت فيه إلى بلاغات عن بقع زيتية وروائح نفّاذة في البنزين واحتمال إضافة مواد مخفِّفة ضارّة، مؤكدةً تضرّر محركات السيارات الحديثة التي تعتمد أنظمة حقن وقود دقيقة، وداعيةً إلى رقابة عاجلة ومحاسبة المتسببين. كما أوضحت وجود فجوة ملحوظة بين البيانات الحكومية والشكاوى اليومية، ما يثير أسئلة حول فعالية المنظومة
في السياق ييرى أستاذ العلوم السياسية الدكتور مصطفى كامل السيد أنّ أسلوب إدارة الحكومة للأزمة يجسّد نمطًا بيروقراطيًّا يعتمد الإنكار بدل المواجهة أو التحقيق الفوري. وقال في حديثه إلى «زاوية ثالثة» إن المؤسسات الرسمية تميل إلى نفي الواقعة تجنّب��ا لإبراز إخفاق رقابي قد يسيء إلى صورتها، إذ لا تمتلك الجهات المصدِرة للبيانات ـ وفي مقدّمتها مركز معلومات مجلس الوزراء ـ صلاحية التحقيق أو المحاسبة. وأشار إلى أنّ تبيُّن صحّة شكاوى البنزين استدعى تدخّل رئيس الجمهورية نفسه لفتح تحقيق وتحديد المسؤولين، ما أظهر قصور الاستجابة الأولية التي اعتمدت على إنكار «بدائي» على حدّ وصفه.
وأضاف أنّ هذا النهج يفترض افتقار الجمهور إلى المعلومات أو احتكار الحكومة للحقيقة، فيعمّق فجوة الثقة ويضعف تفاعل المواطنين مع توجيهات السلطة، حتى حين تكون ضرورية. وأكّد أنّ غياب المساءلة البرلمانية والإعلام الحر يسمح باستمرار هذا الأسلوب، قائلًا إن النظم الديمقراطية لا تمرّ فيها مثل هذه الوقائع بلا مساءلة علنية، بينما يؤدّي تقييد الإعلام وتقاعس البرلمان عن دوره الرقابي إلى تغييب الشفافية، رغم أنّ القضايا المتعلّقة بسلامة الوقود تمسّ صحة المواطنين وأمانهم على الطرق، ما يجعل الحق في معرفة الحقيقة ضرورة لا رفاهية.
نوصي للقراءة: آثار تعذيب وتعليق من اليدين.. تفاصيل مقتل محمود أسعد في قسم الخليفة
وزارة الداخلية: إنكار بلا تحقيق
استحوذت وزارة الداخلية على النصيب الأكبر من بيانات النفي المنشورة عبر صفحاتها الرسمية، إذ لم تُصدِر أي بيان يُقِرّ بصحة الوقائع المثيرة للجدل التي طفت على السطح خلال الأشهر الماضية، بينما ظلّ الإنكار سمةً ثابتة لخطابها، من غير إعلان عن تحقيقات مستقلة أو حتى التحقّق العلني من المزاعم المطروحة.
فعلى سبيل المثال، نفت الوزارة تعرّض المواطن محمود أسعد للتعذيب داخل قسم شرطة الخليفة، وهو ما أدى – بحسب رواية أسرته ومحاميه – إلى وفاته بعد أيام من احتجازه. وأكدت الداخلية أن الوفاة ناتجة عن أسباب صحية، على الرغم من أن تقارير الطب الشرعي الأولية أشارت إلى وجود إصابات حديثة تثير الشكوك حول ملابسات الوفاة.
وفي واقعة أخرى، نفت الوزارة مقتل شابين في محافظة مطروح على يد قوات الأمن خلال مطاردة، مؤكدة أن الحادث جاء نتيجة “تبادل لإطلاق النار” بعد الاشتباه في تورطهما في أنشطة إجرامية. لكن شهادات ذوي الضحايا وسكان محليين شكّكت في الرواية الرسمية، وطالبت بفتح تحقيق نزيه وشفاف لكشف ملابسات الحادث.
وامتد منهج النفي إلى وقائع أخرى أثارت اهتمام وسائل إعلام ومنظمات حقوقية، من بينها مزاعم سوء معاملة المحتجزين في بعض السجون ومقار الاحتجاز. إذ نفت وزارة الداخلية المصرية ما وصفته بـ”الادعاءات المتداولة” على مواقع التواصل الاجتماعي بشأن دخول عدد من نزلاء أحد مراكز “الإصلاح والتأهيل” في إضراب عن الطعام، احتجاجًا على تردّي أوضاع احتجازهم.
وفي بيان نُشر على الصفحة الرسمية للوزارة، نقلت الداخلية عن مصدر أمني تأكيده أن “جميع مراكز الإصلاح والتأهيل مجهزة بكافة الإمكانات المعيشية والصحية اللازمة، ويتم تقديم الرعاية الكاملة للنزلاء وفقًا لأعلى معايير حقوق الإنسان الدولية”. فيما لم يتطرق البيان إلى تفاصيل إضافية بشأن المركز المعني، كما لم يُعلن عن فتح أي تحقيق مستقل للتحقق من صحة ما أُثير، رغم تكرار الشكاوى الحقوقية بشأن مراكز الإصلاح ومعاملة السجناء.
أزمة ثقة: رقابة غائبة
يرى أكرم إسماعيل، القيادي بحزب العيش والحرية (تحت التأسيس) وعضو الحركة المدنية الديمقراطية، أنّ علاقة الدولة بالمجتمع تمرّ بأزمة ثقة عميقة تفاقمت مع تنامي دور وسائل التواصل الاجتماعي خلال السنوات الأخيرة. ويؤكد، في حديثه إلى «زاوية ثالثة»، أنّ منصات مثل فيسبوك سرَّعت تداول الأخبار على اختلاف مصداقيتها، فبات كثير من المصريين يميلون إلى تصديق أي رواية تكشف خللًا إداريًّا أو تنتقص من كفاءة الحكومة، في ظل «مزاج عام غاضب ومشكك».
هذا المناخ ــ بحسب إسماعيل ــ دفع الحكومة إلى تعزيز وجودها الرقمي؛ لا عبر «اللجان الإلكترونية» فحسب، بل من خلال الصفحات الرسمية لوزارات العدل والخارجية والداخلية ومركز معلومات مجلس الوزراء، سعيًا لاحتواء المحتوى المتداول والتأثير في الرأي العام. إلا أن خطابات النفي الصادرة غالبًا ما تأتي «مبتورة»؛ فلا تكشف نتائج تحقيقات، ولا تتعهد بالشفافية أو بخطوات لاحقة، لتتحول إلى ردود إعلامية سطحية تعجز عن تلبية معيار المساءلة.
ويعزو إسماعيل هذا الضعف إلى غياب أدوات الرقابة الفاعلة، مثل البرلمان والمجالس المحلية، التي يُفترض أن تناقش هذه الوقائع وتطالب بتحقيقات شفافة تُعلن نتائجها للرأي العام. ويقول: «نعيش حالة تُتداول فيها الشائعات، ويُقابلها تكذيب حكومي مقتضب لا يقدّم صورة واضحة عما يجري، مع شبه انعدام لمعلومات موثقة حول نتائج التحقيقات في القضايا المثيرة للجدل».
ويختتم بالإشارة إلى أنّ «الحقائق غائبة، وأدوات الدعاية والتضليل هي المسيطرة، بينما تتقلص فرص المواطنين في الوصول إلى المعلومات أو استيعاب ما يُتخذ باسمهم ومن أجلهم».
تداول المعلومات: فراغ تشريعي
تُرجع الباحثة في الشأن الاقتصادي والاجتماعي منى عزت حالة الارتباك بين المؤسسات الرسمية والمجتمع إلى غياب قانون لتداول المعلومات في مصر، مؤكدةً، في حديثها إلى «زاوية ثالثة»، أنّ إقرار هذا التشريع أضحى ضرورة ملحّة لضمان الشفافية والمساءلة. وترى عزت أنّ وجود قانون ينظم الحق في المعرفة سيحقق ثلاثة أهداف أساسية: أولهـا تمكين المواطنين، وليس الصحفيين والباحثين فحسب، من الوصول السهل والمجاني إلى البيانات الرسمية في قطاعات الصحة والتعليم والبيئة والنقل، فضلًا عن إحصاءات الجريمة والاعتداءات؛ وثانيهـا ترسيخ مبدأ المساءلة بحيث تُحاسَب الجهات التي تتعمّد حجب المعلومات أو تتوقف عن إصدار تقارير دورية بلا مبرر مُعلن؛ أمّا الهدف الثالث فيتمثل في وضع معايير واضحة لتداول البيانات، تحدد أدوات النشر ومسؤوليات الموظفين، وتضبط توقيت الإفصاح وآلية الطعن أو الاعتراض.
وتشير عزت إلى أنّ غياب هذا الإطار القانوني يخلق فوضى يتصرّف خلالها كل مسؤول وفق اجتهاده، مستشهدةً بما وقع في الإسكندرية حين سألت الإعلامية لميس الحديدي مسؤولة بهيئة الأرصاد عن عدم تحذير المواطنين من سوء الطقس، فاكتفت المسؤولة بالقول إنّها أبلغت «الجهات المعنية» ونشرت الأمر على مواقع التواصل. وتعلّق عزت بأنّ غياب مرجعية قانونية يترك لكل طرف تعريفه الخاص لـ«الحد الأدنى من الشفافية».
كما تلفت إلى أنّ الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء صار يصدر تقارير جزئية فقط، بينما أصبحت بعض البيانات متاحة بالحضور الشخصي أو توقفت من دون إعلان رسمي، وهو نهج يتكرر في وزارات أوقفت نشر إحصاءات دورية عن الجرائم أو الرعاية الاجتماعية بلا توضيح. وإلى جانب ذلك، عيّنت الحكومة متحدثين إعلاميين في الوزارات، إلا أنّ معظمهم يفتقر إلى الصلاحيات أو المعلومات الكاملة، فيلجأون إلى الإنكار أو الامتناع عن التعليق بانتظار التعليمات، ما يكرّس غياب الشفافية ويحوّل الحق في المعرفة إلى امتياز لا حق.
وتخلص عزت إلى أنّ كثرة النفي، وتأخر التعليق الرسمي، وتعارض روايات المسؤولين هي أعراض لغياب تشريع واضح يفرض الإفصاح ويحاسب المخالف. فرغم أنّ دستور 2014 المعدَّل 2019 ينص في مادته (68) على حق المواطنين في الحصول على المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية، لم يصدر حتى اليوم، بعد أكثر من عقد، قانون شامل يحدد آليات الوصول وواجبات الدولة. هذا الفراغ التشريعي لا يعرقل عمل الصحفيين والباحثين وحسب، بل يحرم المواطنين من أدوات الرقابة، ويعمّق أزمة الثقة بتكريسه ثقافة الحجب والإنكار في عدد من المؤسسات الحكومية.