في ظل تصاعد معدل التضخم الأساسي في مصر إلى 10.4% خلال أبريل 2025، مقارنة بـ9.4% في مارس، تترقب الأسواق والمواطنون قرار لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي المصري، المتوقع صدوره يوم الخميس 22 مايو، لتحديد مسار أسعار الفائدة خلال الفترة المقبلة، سواء بالمضي في خفض جديد أو الاكتفاء بالتثبيت مؤقتًا لمراقبة الأثر الاقتصادي.
وكان البنك المركزي قد أقدم في أبريل الماضي على خفض أسعار الفائدة الأساسية بمقدار 225 نقطة أساس، ليصل سعر عائد الإيداع لليلة واحدة إلى 25%، والإقراض إلى 26%، وسعر العملية الرئيسية وسعر الخصم إلى 25.5%. وأوضح في بيانه أن القرار جاء نتيجة تباطؤ معدلات التضخم، حيث تراجع المعدل السنوي العام إلى 13.6% في مارس 2025 بعد أن بلغ ذروته عند 32.9% في سبتمبر 2023، كما انخفض التضخم السنوي للسلع غير الغذائية من 25.7% إلى 18.9% على أساس سنوي خلال نفس الفترة.
البنك المركزي أشار إلى أن التطورات الشهرية للتضخم بدأت تعود إلى مستوياتها المعتادة تاريخيًا، معتبرًا أن المؤشرات الراهنة تسمح بدعم النشاط الاقتصادي وتخفيف أعباء الدين العام، خصوصًا مع تحسن صافي الأصول الأجنبية وارتفاع الاحتياطي النقدي.
في المقابل، أبدى صندوق النقد الدولي تحفظه على هذا الاتجاه، واعتبر الخفض خطوة مبكرة قد تُعرض البلاد لمخاطر عودة التضخم، خاصة في ظل استمرار الصدمات الاقتصادية العالمية. وحذر جهاد أزعور، مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في الصندوق، من التسرع في تعديل السياسة النقدية دون ضوابط محكمة. ويُعد هذا الخفض أول تعديل بالخفض منذ عام 2020، بعد سلسلة من قرارات التثبيت والرفع التي تبناها المركزي المصري خلال السنوات الأخيرة.
نوصي للقراءة: نزيف الهيئات الاقتصادية المصرية: الحكومة تدعم الخسائر وتُهمِل الإصلاح
مسار سعر الفائدة خلال السنوات الأخيرة
اتخذت السياسة النقدية في مصر مسارًا متقلبًا خلال السنوات الأخيرة، مع سعي البنك المركزي إلى التكيّف مع موجات التضخم والأزمات الاقتصادية المحلية والعالمية. فمنذ قرار تحرير سعر صرف الجنيه في نوفمبر 2016، شرع البنك في دورة مكثفة لرفع أسعار الفائدة بهدف كبح التضخم الحاد، ليصل سعر عائد الإيداع إلى 14.75%، والإقراض إلى 15.75%، بزيادة إجمالية بلغت 5.5% خلال عام 2017.
لاحقًا، اتجه المركزي نحو التيسير النقدي، فتم خفض الفائدة تدريجيًا في عامي 2019 و2020، قبل أن يستقر السعر عند 8.25% للإيداع و9.25% للإقراض طوال عام 2021. لكن مع تصاعد الضغوط الاقتصادية وتفاقم التضخم مجددًا، بدأ البنك المركزي منذ 2022 دورة جديدة من رفع الفائدة، بلغت ذروتها في 2024، حين ارتفع سعر الإيداع إلى مستوى قياسي عند 27.25%، مدفوعًا بمعدل تضخم تجاوز 30%.
وفي خطوة مفصلية، اتخذ المركزي المصري في أبريل 2025 قرارًا بخفض أسعار الفائدة بمقدار 225 نقطة أساس دفعة واحدة، مستندًا إلى تراجع ملحوظ في التضخم السنوي العام الذي بلغ 13.6%. ويُنظر إلى هذا القرار بوصفه بداية دورة خفض محتملة تمتد حتى نهاية العام، وسط تقديرات بأن تتراوح التخفيضات الإضافية بين 400 و600 نقطة أساس، بحسب توقعات مؤسسات مالية ومحللين.
وتُبيّن الرسوم البيانية المرفقة تطور أسعار الفائدة على الإيداع والإقراض في مصر خلال الفترة الممتدة من 2016 إلى 2025، مسلطة الضوء على التحولات الكبرى التي رافقت كل مرحلة من مراحل السياسات النقدية.
توقع الدكتور كريم العمدة، أستاذ الاقتصاد، أن يُقدِم البنك المركزي المصري على خفض جديد لأسعار الفائدة خلال اجتماعه المقبل، مرجّحًا أن يتراوح هذا الخفض بين 1% و2%. وأشار في حديثه إلى زاوية ثالثة إلى أن إجمالي التخفيضات المحتملة خلال عام 2025 قد يبلغ ما بين 6% و8%، في حال استمرار الاتجاه التراجعي لمعدلات التضخم، الذي بات واضحًا في أحدث البيانات الرسمية، بعد فترة من الارتفاعات القياسية.
وأوضح العمدة أن أحد المحركات الأساسية لهذا التوجه هو الفارق الكبير حاليًا بين سعر الفائدة الاسمي ومعدل التضخم، وهو ما يرفع ما يُعرف بـ”سعر الفائدة الحقيقي” real interest rate، أي ناتج طرح معدل التضخم من الفائدة الاسمية. وبيّن أن هذا المؤشر يُعد أداة محورية في توجيه سلوك الأفراد بين الادخار أو الاستهلاك، ويُوصف غالبًا بأنه المحفّز الأهم في الاقتصاد الاستهلاكي.
وأضاف أن الفائدة الحقيقية المرتفعة تُفضي إلى كبح النشاط الاستهلاكي والإنتاجي على السواء، معتبرًا أن المستوى الحالي لأسعار الفائدة لا يزال مرتفعًا بشكل يثقل كاهل الأنشطة الاقتصادية، ويعزز الميل نحو الادخار على حساب الاستثمار والاستهلاك، ما يبرر – برأيه – ضرورة مزيد من التخفيضات خلال الأشهر المقبلة.
وبيّن العمدة أن سعر الفائدة يؤثر بشكل مباشر على ثلاثة محاور رئيسية: حجم الدين المحلي، مستوى الاستثمار، وأداء أسواق المال. ففي الوقت الذي يؤدي فيه ارتفاع الفائدة إلى تفاقم أعباء الدين المحلي وتراجع النشاط الاستثماري، فإن خفضها يُسهم في تخفيف هذه الضغوط وتحفيز النمو الاقتصادي. ويوضح أن الاقتصاد المصري تأثر لسنوات بسبب استمرار أسعار الفائدة المرتفعة، ومن المتوقع أن يسهم التخفيض المرتقب في تحسين مؤشرات الاقتصاد الذي يعاني من تباطؤ واضح.
ورغم أهمية الفائدة في جذب رؤوس الأموال الأجنبية، خاصة قصيرة الأجل أو ما يُعرف بـ”الأموال الساخنة”، إذ شدد العمدة على أن هذا العامل ليس الوحيد المؤثر. وأن تحسين مناخ الاستثمار يتطلب مجموعة من السياسات المصاحبة، مثل إجراء إصلاحات هيكلية، وتوسيع نطاق تخارج الدولة من الأنشطة الاقتصادية، وخلق بيئة أكثر تنافسية أمام القطاع الخاص.
نوصي للقراءة: مكافحة الفساد في مصر: كيف تحوّلت الاستراتيجيات إلى حبرٍ على ورق؟
تداعيات ارتفاع سعر الفائدة
منذ قرار تعويم الجنيه المصري في نوفمبر 2016، شهدت العملة المحلية تراجعًا ملحوظًا أمام الدولار الأمريكي، ما كان له تداعيات اقتصادية بالغة على مختلف القطاعات. ففي نوفمبر 2016، اتخذ البنك المركزي المصري قرارًا بتعويم الجنيه، الذي تسبب في انخفاض قيمته بشكل حاد من حوالي 8.8 جنيهًا مقابل الدولار إلى 18.16 جنيهًا، ما ألقى بظلاله على القوة الشرائية للمواطنين وارتفاع التضخم.
وشهدت السنوات التالية تقلبات في قيمة الجنيه، حيث ظل الدولار في 2017 يتراوح بين 18 إلى 19 جنيهًا، ليواصل ارتفاعه تدريجيًا حتى وصل في 2023 إلى مستويات قياسية، تخطت حاجز 27 جنيهًا في بعض الأوقات. ومع بداية عام 2024، استمر الجنيه المصري في التراجع بشكل كبير، ليصل الدولار إلى حوالي 50.5 جنيهًا، في ظل أزمة اقتصادية خانقة أدت إلى تراجع الاحتياطيات الأجنبية وارتفاع مستويات الدين العام. ما أدى إلى تأزم الوضع المعيشي للمواطنين.
مع قرار البنك المركزي بتحرير سعر صرف الجنيه في نوفمبر 2016، قفزت الأسعار في الأسواق المصرية وسجل التضخم السنوي في نهاية العام 23.3%، مدفوعًا بارتفاع أسعار السلع المستوردة والطاقة. وفي يوليو 2017، بلغ التضخم ذروته، إذ سجل نحو 33%، وهو أعلى معدل في نحو ثلاثة عقود. جاءت هذه القفزة نتيجة الإجراءات المرتبطة ببرنامج الإصلاح الاقتصادي، مثل رفع الدعم التدريجي عن الوقود وزيادة الضرائب.
انخفض التضخم في مايو 2018 إلى 11.447% ثم ارتفع في نوفمبر من نفس العام إلى 15.655%، وفي نوفمبر من عام 2019 انخفض التضخم إلى 3.628%. وخلال جائحة كورونا استقر التضخم في نوفمبر 2020، عند نسبة 5.696%، ثم سجل 5.56% في نوفمبر 2021. في عام 2022، عاودت معدلات التضخم في مصر إلى الارتفاع وسجل التضخم معدل 21.27% بنهاية العام
وفي سبتمبر 2023، ارتفع معدل التضخم إلى مستويات قياسية بلغت 38% ما ألقى بظلاله على أسعار السلع المختلفة، وبدأ في التراجع النسبي مجددًا ليسجل 33.7% في نهاية العام. وبنهاية ديسمبر 2024، بدأ التضخم في الانحسار تدريجيًا، مسجلًا 24%، وفي أبريل 2025، انخفض التضخم إلى 13.6%، مع مؤشرات أولية على مزيد من التراجع، لكن لا تزال الأسعار مرتفعة مقارنة بمتوسطات ما قبل 2016، مما يعني أن التأثير المعيشي ما زال قائمًا بقوة.
يقول محمد رمضان الباحث الاقتصادي في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أن السياسة النقدية في مصر شهدت أولى خطوات خفض أسعار الفائدة عقب جائحة كورونا، في محاولة لتحفيز النمو الاقتصادي وتقليل فرص الركود بعد تعطل الإنتاج وتباطؤ حركة التجارة. ومنذ ذلك الوقت، لم يُقدم البنك المركزي على خطوات مماثلة، مفضلاً الإبقاء على أسعار الفائدة مرتفعة رغم المتغيرات الاقتصادية.
ويتابع في حديثه لزاوية ثالثة أن الفارق الكبير بين معدلات الفائدة الاسمية التي تتراوح حاليًا بين 25% و26% بعد أخر تخفيض ومعدل التضخم، يعكس ما يُعرف بـ”الفائدة الحقيقية”، وهي أداة محورية في جذب الاستثمارات، خاصة في أدوات الدين الحكومية، سواء من المستثمرين المحليين أو الأجانب الباحثين عن العائد المرتفع.
نوصي بالقراءة: المراجعة الخامسة لصندوق النقد: أصول الدولة للبيع.. والفقراء أول الضحايا
الأموال الساخنة عقدة مصر الاقتصادية
يُفسر الباحث الاقتصادي محمد رمضان الإبقاء على أسعار فائدة مرتفعة لفترة طويلة جزئيًا برغبة البنك المركزي في جذب “الأموال الساخنة”، وهو توجه يرى أن له تأثيرًا سلبيًا على الاقتصاد المحلي، لكونه يعرقل الاستثمار الإنتاجي ويزيد من كلفة الاقتراض.
ويتوقع الباحث الاقتصادي أن يمتلك البنك المركزي فرصة جديدة لخفض أسعار الفائدة في اجتماعه المقبل، نظرًا لاستمرار ارتفاع الفائدة الحقيقية في مصر. إلا أن هذا القرار يبقى رهينًا بعدة عوامل معقدة، منها حجم الاحتياجات الدولارية للحكومة والمركزي، بالإضافة إلى التطورات الخارجية، مثل حالة عدم اليقين الاقتصادي عالميًا، والتوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وقرارات الفيدرالي الأمريكي المتعلقة بأسعار الفائدة.
من جانب آخر، يؤثر استمرار الفائدة المرتفعة سلبًا على رأس المال العامل في الشركات، إذ ترتفع معه التكاليف التمويلية، ما يدفع رجال الأعمال إلى المطالبة بخفض الفائدة لتخفيف أعباء التمويل وتوسيع النشاط الإنتاجي -بحسب رمضان.
ويضيف في سوق العقارات على سبيل المثال، يُعتبر سعر الفائدة عنصرًا أساسيًا في تحديد نماذج التسعير، خصوصًا في ما يتعلق ببيع الوحدات السكنية بنظام التقسيط. فارتفاع تكلفة التمويل يدفع المطورين إلى تحميلها على سعر العقار النهائي، ما يؤدي إلى زيادة الأسعار بشكل غير مباشر، وهو ما يُفسر جزئيًا القفزات المتتالية في أسعار الوحدات السكنية، خاصة من قبل الشركات الكبرى في القطاع الرسمي.
ويُنتظر أن يُسهم أي خفض جديد في أسعار الفائدة في إعادة تقييم أسعار الأصول في السوق، وفي مقدمتها العقارات، وإن لم يكن الأثر فوريًا، إلا أن تأثيره سيظهر تدريجيًا على المدى الطويل. وبهذا المعنى، فإن خفض الفائدة لا يقتصر أثره على تسهيل الاقتراض، بل يمتد إلى كبح جماح تضخم أسعار الأصول، مما قد ينعكس لاحقًا على تراجع الضغوط التضخمية في أسعار السلع، يقول رمضان.
ويختتم الباحث الاقتصادي حديثه بأن يد الحكومة والبنك المركزي غير مطلقة في تقرير مستقبل الفائدة، إذ تؤثر عليها مباشرة قرارات البنوك المركزية الكبرى في العالم، وعلى رأسها الفيدرالي الأمريكي والمركزي الأوروبي. فهذه السياسات الدولية ستحدد المسار الذي يمكن لمصر والدول النامية اتباعه فيما يخص السياسة النقدية خلال الفترة المقبلة.
وتستهدف مصر بشكل كبير مستثمرو الأموال الساخنة وهي استثمارات أجنبية قصيرة الأجل، تدخل السوق المصرية عادةً في أدوات الدين الحكومية (مثل أذون الخزانة والسندات) أو سوق الأسهم، بهدف تحقيق أرباح سريعة من فروق أسعار الفائدة أو تقلبات أسعار الصرف، دون نية للبقاء على المدى الطويل. فعقب قرار الحكومة المصرية بتعويم الجنيه في 2016، جذبت مصر كميات كبيرة من الأموال الساخنة مستفيدة من ارتفاع أسعار الفائدة. لكن خلال الأزمات المتعاقبة مثل جائحة كورونا أو الغزو الروسي لأوكرانيا، أو في حالة خفض التصنيف الائتماني، خرجت هذه الأموال بشكل سريع، ما أدى إلى ضغط شديد على الجنيه واحتياطي النقد الأجنبي، الأمر الذي انتقده الخبراء الاقتصاديين الذين طالبوا بضرورة عدم الاعتماد على الأموال الساخنة التي لا توفر استقرار اقتصادي طويل المدى.
ورغم بوادر الانخفاض في معدلات التضخم، لا تزال التحديات الاقتصادية حاضرة بقوة، مما يجعل المفاضلة بين خفض الفائدة أو الإبقاء عليها اختبارًا حرجًا لقدرة صانعي القرار على تحقيق توازن فعّال بين ضبط الأسعار وتحفيز النمو الاقتصادي. غير أن فاعلية هذا القرار، أيا كان اتجاهه، ستظل رهينة بوجود إصلاحات هيكلية أوسع، تضمن بيئة اقتصادية مستقرة ومُحفزة، وتدعم الإنتاج المحلي، وتساهم في تخفيف الضغوط المعيشية المتزايدة على المواطنين.