البناء المخالف يدخل دوامة المحاكم العسكرية

يحذر خبراء من الزج بالمؤسسة العسكرية في منازعات ذات طابع مدني.
Picture of شيماء حمدي

شيماء حمدي

أثار توجيه رسمي صادر عن وزارة الداخلية المصرية حالة من الجدل داخل الأوساط الحقوقية والمحلية، بعد أن تضمن قرارًا بإحالة قضايا مخالفات البناء والتعدي على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة إلى القضاء العسكري. الخطاب، الذي وُجه إلى مسؤولي إحدى الجهات المحلية في محافظة الجيزة، نُشرت منه نسخ إلكترونية، وتضمن تعليمات واضحة بسرعة تحرير المحاضر في أقسام الشرطة بمجرد ضبط المخالفة، مع إلزام المحليات – سواء في الأحياء أو المراكز – بإدراج بيانات كاملة عن الواقعة، تشمل هوية مالك العقار، والمقاول المنفذ، وشركات الخرسانة الجاهزة المتورطة – إن وُجدت – إلى جانب موقف التعدي السابق والرقم القومي لكل طرف ذي صلة.

من جانبه، صرّح اللواء حسام لبيب، السكرتير العام المساعد لمحافظة القاهرة، بأن مقترح إحالة مخالفات البناء إلى القضاء العسكري كان محل دراسة بالفعل خلال الفترة الماضية، بهدف إعادة تفعيله من جديد، إلا أن محافظة القاهرة – حتى الآن – لم تتلقَ أي تعليمات رسمية بهذا الشأن.

وأوضح لبيب أن هذا التوجه يأتي في ضوء تصاعد المخالفات المتعلقة بالبناء العشوائي والتعدي على أملاك الدولة والأراضي الزراعية، لا سيما خلال فترات الأعياد والعطلات الرسمية، حين تنخفض معدلات الرقابة الميدانية. وأضاف أن المخالفات التي وقعت قبل صدور قانون التصالح الأخير لا تندرج ضمن هذا التوجه، إذ تخضع لبنود قانون التصالح المعمول به حاليًا.

وتعيد هذه الخطوة تسليط الضوء على المادة 204 من الدستور المصري، التي تنص على أن القضاء العسكري جهة مستقلة، يختص حصريًا بالجرائم المرتبطة بالمؤسسة العسكرية، ولا يجوز محاكمة المدنيين أمامه إلا في حالات استثنائية محددة، من بينها الاعتداء على منشآت عسكرية أو مناطق تخضع لحمايتها، أو التعدي على أفراد القوات المسلحة أثناء أداء مهامهم. وتظل قائمة هذه الحالات محصورة بنصوص قانونية تحددها بدقة، وفق ما ينص عليه الدستور.

 

نوصي للقراءة: رأس الحكمة في مواجهة جرافات كامل الوزير

تهديد مبدأ العدالة 

يقول محمد فتوح، المحامي بالاستئناف العالي ومجلس الدولة، إن توجه الدولة نحو إحالة قضايا البناء المخالف إلى القضاء العسكري لم يبقَ في إطار التلويح، بل بدأ تطبيقه فعليًا في عدد من المحافظات، استنادًا إلى القرار الجمهوري رقم 136 لسنة 2014، والذي ينص على تكليف القوات المسلحة بمعاونة الشرطة في حماية المنشآت العامة والحيوية، مع اعتبار تلك المنشآت “في حكم المنشآت العسكرية” طوال فترة الحماية، مما يجيز إحالة المتهمين بالاعتداء عليها إلى القضاء العسكري.

ويوضح فتوح، في حديثه إلى زاوية ثالثة، أن بعض المحافظات والمحليات لجأت إلى تأويل موسّع لهذا القرار، فصارت تعتبر مخالفات البناء، والتعديات على الأراضي الزراعية أو المرافق العامة، من قبيل الاعتداء على “منشآت حيوية”، وبالتالي تُعامل هذه القضايا كجرائم خاضعة لاختصاص القضاء العسكري، رغم طبيعتها المدنية الصريحة.

لكن هذا التوسع في التفسير، بحسب فتوح، يثير إشكاليات دستورية خطيرة، لأن المادة 204 من الدستور تنص صراحة على أن “لا يجوز محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، إلا في الجرائم التي تمثل اعتداءً مباشرًا على المنشآت العسكرية أو أفرادها”. وبالتالي، فإن محاكمة مواطنين أمام محاكم عسكرية بسبب بناء منزل بدون ترخيص، أو مد شبكة مياه بطريقة مخالفة، أو تغيير استخدام أراضٍ زراعية، يمثل خروجًا صارخًا على النص الدستوري، ويقوض مبدأ الحق في المثول أمام القاضي الطبيعي، الذي يشكل إحدى ركائز العدالة.

وأكد فتوح أن العدالة لا تُقاس فقط بنتائج المحاكمات، بل تبدأ من احترام الإطار الدستوري والقانوني، وضمان عدم اللجوء إلى أدوات استثنائية لمعالجة قضايا ذات طابع مدني صرف. وأضاف أن هذا النهج يُهدد الثقة في النظام القضائي ككل، ويخلق مناخًا محفوفًا بالمخاطر لحقوق الأفراد، خصوصًا في ظل غياب الضمانات الكاملة للمحاكمة العادلة أمام القضاء العسكري.

واختتم فتوح تصريحه بمطالبة واضحة بوقف هذه الإحالات فورًا، والعودة إلى احترام نصوص الدستور، بما يضمن صون الحقوق الأساسية للمواطنين، ويؤكد على مبدأ سيادة القانون واستقلال السلطة القضائية.

ووفقًا لبيانات منظومة الشكاوى الحكومية الموحدة التابعة لمجلس الوزراء، فقد تلقت الجهات الرسمية 244 شكوى جديدة خلال شهر أبريل 2025 فقط، تتعلق بمخالفات بناء وتعديات عمرانية في مناطق متفرقة، بينها حي بولاق الدكرور ومناطق بمحافظة المنيا.

كما كشف اللواء عمرو عبد المنصف، المشرف على المنظومة، أن الحكومة تلقت أكثر من 1800 شكوى منذ بداية العام الجاري بشأن تأخر إجراءات التصالح أو إحالة مخالفين إلى جهات غير مدنية، مؤكدًا أن 91% من هذه الشكاوى جرى الرد عليها رسميًا خلال مدة لا تتجاوز أسبوعين.

في هذا السياق، يؤكد ممدوح جمال، المحامي الحقوقي، أن هناك تعارضًا واضحًا بين الفقرة الثانية من المادة 204 من الدستور المصري، والخطابات الرسمية الصادرة بشأن إحالة قضايا البناء المخالف إلى القضاء العسكري. 

ويوضح في حديثه إلى زاوية ثالثة أن الدستور حصر اختصاص القضاء العسكري في حالات محددة تتعلق بجرائم ذات طابع عسكري بحت، مثل الاعتداء على المنشآت العسكرية، أو المناطق العسكرية، أو الحدود وغيرها من الاختصاصات  ذو طابع عسكري. وأضاف  أن إسناد مخالفات البناء إلى القضاء العسكري يُشكل مساسًا خطيرًا بحق المواطنين في التقاضي والطعن على الأحكام، ويُعد توسيعًا غير مبرر لاختصاص القضاء الاستثنائي، ما يُنذر بعواقب سلبية على المجتمع ومنظومة العدالة.

بدوره، أكد المحامي طارق العوضي، عضو لجنة العفو الرئاسي، رفضه إحالة المدنيين إلى القضاء العسكري في قضايا المباني المخالفة. وقال في بيان له، إن القرار يُعد انتهاكا صريحا للدستور، ولا سيما المادة (204) التي تنص على عدم جواز محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، إلا في الجرائم التي تمثل اعتداءً مباشرا على المنشآت العسكرية أو ما في حكمها، وهي شروط لا تنطبق على قضايا البناء المخالف أو التعدي على أراضي الدولة.

وأضاف العوضي أن هذا التوجه يمثل تراجعا خطيرا عن مبدأ استقلال القضاء الطبيعي، ويُعد انتقاصا من حقوق المواطنين وضماناتهم القانونية، ما يُعد ضربا لمبدأ المحاكمة العادلة. مؤكدًا أن مصر تملك نظاما قضائيا مدنيا قادرا على الفصل في جميع النزاعات، بما فيها ق��ايا التعديات العمرانية، ما يجعل اللجوء إلى القضاء العسكري غير مبرر قانونيا أو دستوريًا.

 وطالب العوضي السلطات المختصة بالتراجع عن القرار، وضمان حق المواطنين في المثول أمام قاضيهم الطبيعي، داعيا جميع القوى الوطنية ومؤسسات المجتمع المدني إلى التكاتف من أجل وقف هذا “الانتهاك الخطير” للمبادئ الدستورية، وصون ثقة المواطن في منظومة العدالة.

 

نوصي للقراءة: أحلام تحت الأنقاض: ملاك “عمارات شرق الأوتوستراد” يدفعون الثمن مرتين

عشوائية في القرار

يرى زهدي الشامي، الباحث الاقتصادي ونائب رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، أن إدارة الدولة لملف مخالفات البناء تتسم بقدر كبير من التخبط وغياب الرؤية الشاملة، مشيرًا إلى أن قرارات حظر البناء التي صدرت قبل سنوات كانت نقطة تحول سلبية في قطاع التشييد، وهو أحد أكبر القطاعات استيعابًا للعمالة في مصر.

ويوضح الشامي، في حديثه إلى زاوية ثالثة، أن تلك السياسات خلّفت آثارًا اقتصادية واجتماعية حادة، إذ أدت إلى فقدان مئات الآلاف من العاملين في قطاع البناء لوظائفهم، إما بشكل جزئي أو كلي، واضطر بعضهم للالتحاق بمشروعات الدولة في المدن الجديدة، بينما ظل آخرون عالقين في دائرة البطالة أو التشغيل غير المنتظم. ونتيجة لهذا الجمود، شهدت السوق العقارية موجة ارتفاعات متتالية في الأسعار، بفعل انكماش المعروض وتزايد الطلب، وهو ما أثقل كاهل المواطنين الباحثين عن سكن.

ويضيف أن الدولة، وبعد سنوات من تعطيل قطاع البناء المدني، تعود لتفرض مناخًا أكثر تقييدًا، ليس عبر قرارات الحظر المباشر، بل من خلال إحالة قضايا المخالفات إلى القضاء العسكري، وهو ما اعتبره الشامي محاولة “مبطنة” لتجميد القطاع مجددًا، ولكن عبر أدوات عقابية وتشريعية مشددة، بدلاً من معالجة جذرية للمخالفات تنطلق من رؤية تخطيطية وتنموية متكاملة.

وانتقد الشامي بشدة مثول المدنيين أمام القضاء العسكري في قضايا ذات طبيعة اقتصادية ومدنية، مؤكدًا أن هذا التوجه يشكل خرقًا صريحًا للدستور، ويفرغ مبدأ “القاضي الطبيعي” من مضمونه. كما اعتبر أن التوسع في إسناد مهام غير عسكرية إلى المؤسسة العسكرية، خصوصًا في المجالات الاقتصادية، لا يخدم مسار التنمية، بل يعزز مناخًا غير شفاف ويقوّض مبدأ التخصص، وهو ما يُعد من أبجديات أي سياسات اقتصادية فعّالة.

وفي سياق متصل، أصدر حزب المحافظين بيانًا أعرب فيه عن رفضه الكامل لإحالة قضايا البناء المخالف إلى القضاء العسكري، مؤكدًا تمسكه بمبادئ الدستور المصري، وأولوية سيادة القانون، وضرورة احترام حق المواطنين في المثول أمام قاضيهم الطبيعي، بوصفه ضمانة أساسية لأي منظومة عدالة عادلة.

وأوضح الحزب، في بيانه الرسمي، أن هذا التوجّه يُعد انتهاكًا واضحًا للمادة (97) من الدستور، التي تنص على أن “لا يُحاكم شخص إلا أمام قاضيه الطبيعى، والمحاكم الاستثنائية محظورة”، مشددًا على أن الأصل في النظر في مثل هذه القضايا ذات الطابع المدني هو القضاء المدني المختص، الذي يوفر ضمانات العدالة وحقوق الدفاع.

ودعا الحزب إلى تعزيز دور الأجهزة المحلية في الوقاية من مخالفات البناء، من خلال تفعيل أدوات الرقابة الإدارية والتخطيطية، ومحاسبة المسؤولين عن التقصير داخل منظومة الحكم المحلي، بما يُسهم في فرض الانضباط العمراني دون المساس بحقوق المواطنين الدستورية. محذرًا من الزج بالمؤسسة العسكرية في منازعات ذات طابع مدني، مؤكدًا أن ذلك يتنافى مع طبيعة دورها الوطني، ويمثل تراجعًا عن المفهوم المدني للدولة، وقد يؤدي إلى تداخل غير صحي بين السلطات، بما ينعكس سلبًا على العلاقة بين المواطن والقوات المسلحة.

 

نوصي للقراءة: ناهيا تحت قضبان قطار التطوير

غياب المحليات

ترى منى عزت، الباحثة في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، أن أزمة المخالفات في البناء تعود في الأساس إلى غياب المحليات في مصر، هذه الأزمة المتجذرة  والممتدة منذ عقود طويلة. مشيرة إلى أن غياب المجالس المحلية الشعبية المنتخبة منذ سنوات طويلة أدى إلى تحويل نظام الحكم المحلي إلى إدارة بيروقراطية مغلقة، تفتقر إلى الرقابة الشعبية والشفافية والمساءلة.

تضيف عزت في تصريح إلى زاوية ثالثة أن المحليات، باعتبارها الجهة المسؤولة عن الإشراف على الأحياء ومنح تراخيص البناء، تدار حاليًا بشكل مركزي، مما يقوّض مبادئ التقييم والمتابعة ويترك المجال مفتوحًا أمام العديد من المخالفات، خاصة في ما يتعلق بالبناء والمنشآت السكنية.

وأوضحت أن قطاع البناء من أكثر القطاعات التي تدور حولها شبهات فساد، لكونه مجالًا ضخمًا من حيث حركة الأموال، مشيرة إلى أن النيابة الإدارية سبق أن كشفت عن العديد من قضايا الفساد المرتبطة بالإدارة المحلية، بما في ذلك مخالفات البناء والتعدي على الشوارع من قبل المحلات التجارية.

ورغم الإجراءات المشددة التي اتخذتها الدولة مؤخرًا لمواجهة هذه التعديات، ترى عزت أن “التشدد في الإجراءات لا يمثل حلاً فعّالًا لأزمة عميقة الجذور بهذا الحجم”، مؤكدة أن “ما نحتاجه هو إعادة نظر شاملة في نظام الإدارة المحلية، تستند إلى إصلاحات ديمقراطية وتشاركية، تقوم على اللامركزية، وتحترم تنوع الثقافات المحلية”. وشددت على أهمية عودة المجالس الشعبية المنتخبة، وإجراء انتخابات للمحافظين، مع ضرورة إقرار موازنات مستقلة للوحدات المحلية تُعرض بشفافية وتخضع للمراجعة والتقييم من قبل المجتمع.

واختتمت الباحثة في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية حديثها بالتأكيد على أن تهميش مؤسسات المجتمع المدني، واللجوء فقط إلى مؤسسات الدولة لاتخاذ إجراءات صارمة، لن يحل الأزمة، بل سيؤدي إلى تعميقها ما لم يتم تبني نموذج جديد للإدارة المحلية يقوم على الديمقراطية والمشاركة الشعبية الحقيقية.

وتعاني مصر منذ عقود من تفشي ظاهرة البناء المخالف، وهي أزمة تعود جذورها إلى عقود من غياب الرقابة وضعف آليات التخطيط العمراني. وفي محاولة لمعالجة هذه الظاهرة، أقرّت الحكومة المصرية في عام 2019 قانونًا يتيح التصالح في مخالفات البناء، إلا أن تطبي��ه واجه العديد من العقبات الإجرائية التي حالت دون تنفيذه على النحو المنشود.

وفي عام 2023، أجرى البرلمان المصري تعديلات تشريعية تهدف إلى تيسير إجراءات التصالح وتبسيطها. يُشار إلى أن عدد مخالفات البناء في مصر يُقدَّر بنحو 3 ملايين مخالفة، بحسب تصريحات سابقة للنائب أحمد السجيني، رئيس لجنة الإدارة المحلية بمجلس النواب، في ظل تفاقم هذه الظاهرة على مدار السنوات الماضية.

وفي هذا السياق، أًصدر رئيس مجلس الوزراء قرار رقم 1386 لسنة 2025، والذي ينص على مد العمل بالقانون رقم 187 لسنة 2023 الخاص بالتصالح في مخالفات البناء وتقنين أوضاعها، في خطوة تهدف إلى منح المواطنين مزيدًا من الوقت لتسوية أوضاعهم القانونية، واستكمال الإجراءات اللازمة.

شيماء حمدي
صحفية مصرية، تغطي الملفات السياسية والحقوقية، وتهتم بقضايا المرأة. باحثة في حرية الصحافة والإعلام والحريات الرقمية.

Search