عاصفة واحدة.. تكفي لكشف ما لا تتحمله الإسكندرية

عاصفة رعدية ضربت الإسكندرية في مايو، تسببت في انهيارات وخسائر ومادية، وسط تحذيرات علمية من تصاعد الظواهر المناخية وتهديد آلاف المباني الساحلية في مصر.
Picture of آية ياسر

آية ياسر

في الساعة الثانية من فجر السبت، آخر أيام شهر مايو، ضربت عاصفة جوية عنيفة مدينة الإسكندرية، الواقعة على ساحل البحر المتوسط، في مشهد غير معتاد بنهاية فصل الربيع. استمرت العاصفة نحو 45 دقيقة، وتخللتها أمطار رعدية غزيرة وتساقط غير مسبوق للثلوج وكتل من البَرَد كبيرة الحجم، صاحبتها رياح عاتية تجاوزت سرعتها 50 كيلومترًا في الساعة، ما تسبب في ذعر واسع بين السكان.

أسفرت العاصفة عن إصابة سبعة مواطنين، وألحقت خسائر مادية، أبرزها تعرض عشرة عقارات لانهيارات جزئية داخل أحياء: المنتزه أول، المنتزه ثان، شرق، وسط، والجمرك. كما سقطت سبعة أعمدة إنارة في أحياء المنتزه أول، شرق، ووسط، إلى جانب سقوط ثمانية إعلانات دعائية بأحياء شرق ووسط، وعدد من الأشجار، وكابل إنارة، ووحدة تكييف، ومواسير حديدية تابعة لأعمال ترميم، بالإضافة إلى اندلاع حريق في سيارة. وأدت كميات الأمطار والبَرَد إلى غرق الشوارع وتعطل الحركة المرورية في عدد كبير من المحاور الحيوية.

وخفّضت السلطات المحلية من ضغط مياه الشرب في بعض مناطق غرب الإسكندرية والمنتزه، بصورة مؤقتة، لتخفيف الأحمال على شبكات المياه وتسهيل تصريف الأمطار. كما دفعت بعربات ومعدات الصرف الصحي بشكل مكثف في أحياء شرق والمنتزه، مع تركيز الجهود على النقاط الساخنة ومناطق تجمع المياه، لضمان سرعة السحب ومنع التراكم. وجرى تنفيذ مرور ميداني شامل من قبل الأجهزة التنفيذية للتأكد من سيولة الحركة المرورية في المحاور الرئيسية، وإزالة العوائق التي تعرقل حركة السير أو تعيق تصريف المياه، بما يشمل الإعلانات، الأشجار المتساقطة، وأعمدة الإنارة المتضررة. ورفعت المحافظة درجة الاستعداد القصوى بجميع الأحياء وشركات المياه والصرف الصحي والكهرباء، مع استمرار التنسيق مع غرف العمليات وتفعيل التدخل السريع فور تلقي البلاغات.

في المقابل، تعرضت الهيئة العامة للأرصاد الجوية لانتقادات حادة بعد العاصفة، بسبب غياب أي تحذيرات استباقية من حدوث اضطرابات جوية بهذا الحجم. إذ اكتفى بيان الهيئة بشأن توقعات طقس السبت، الموافق 31 مايو 2025، بالإشارة إلى “فرص أمطار خفيفة إلى متوسطة، قد تكون رعدية أحيانًا” على مناطق من السواحل الغربية وشمال الوجه البحري، تمتد خفيفة إلى جنوب الوجه البحري على فترات متقطعة، إضافة إلى “نشاط للرياح” على سواحل الوجه البحري والمناطق الشمالية الشرقية، قد يثير الرمال والأتربة في المناطق المكشوفة من القاهرة، مدن القناة، خليج السويس، شمال البحر الأحمر، سيناء، شمال الصعيد، والصحراء الغربية، على فترات متفرقة.

 


عاصفة رعدية حادة من النوع الفائق

ينفي الباحث في الفيزياء والأرصاد الجوية، أحمد سعيد، أن تكون العاصفة التي ضربت الإسكندرية نتيجة تغيرات في المجال الكهرومغناطيسي للأرض أو بفعل أي عمليات للتحكم في الطقس، موضحًا أنها جاءت بفعل منخفض جوي بارد متعمق في طبقات الجو العليا، وهو أمر نادر الحدوث في مثل هذا التوقيت من العام، حيث تتأثر مصر عادةً بأخاديد أو أحواض باردة تسبب أمطارًا خفيفة على السواحل الشمالية.

ويشرح سعيد أن المنخفض الجوي الأخير سجّل قيم تبريد منخفضة في الطبقة 500 من الستراتوسفير وصلت إلى -19 درجة، تزامنًا مع وجود رطوبة قوية في طبقات الجو العليا (850 و700 هكتوباسكال)، ما سمح بتشكّل سحب ممطرة ونشاط حمل حراري قوي، نتيجة طاقة كامنة كانت مختزنة في طبقات الجو. ومع اقتراب المنخفض من شمال غرب مصر، بدأت السحب الرعدية في التكوّن فوق شرق ليبيا، ووصلت مساء الجمعة إلى السلوم. وبمجرد دخولها الأراضي المصرية وازدياد عمقها، تحولت العواصف الرعدية إلى صواعق أرضية ضربت مناطق بين السلوم ومرسى مطروح، مرورًا بالإسكندرية والعلمين، بينما كانت السحب تزحف باتجاه البحر ويزداد معها خطر العاصفة.

ويضيف أن أطراف السحابة الرعدية العملاقة، التي تمركزت فوق البحر، لامست بالكاد سواحل الإسكندرية وشمال الدلتا، فتسببت في صواعق ورعود شديدة، وتساقط غزير لحبات البَرَد بحجم غير معتاد، مصحوبة برياح هابطة انطلقت من قلب السحب الرعدية. ويرجّح سعيد أن تكون المناطق الشرقية من الإسكندرية قد استقبلت النصيب الأكبر من الأمطار، بخلاف غرب المدينة، نظرًا لأن شرق الإسكندرية يمتد داخل البحر، ويقع في مواجهة مباشرة مع الرياح العكسية التي كانت سائدة حينها. أما غرب الإسكندرية، فقد شهد تيارًا صاعدًا قويًا احتجز كميات المطر في الطبقات العليا لفترة، وهو ما سمح بتشكّل حبات برد كبيرة الحجم. وبمجرد ضعف هذا التيار، هطلت الأمطار والثلوج بكثافة على شرق المدينة.

ويقول سعيد في حديثه إلى زاوية ثالثة: “بدأت السحب الرعدية من ليبيا وأخذت منحى مختلفًا في منطقة السلوم، وشهدت المنطقة الممتدة حتى مرسى مطروح عواصف رعدية حادة، وكانت الصواعق تضرب الأرض. وبين الإسكندرية والعلمين، نشأ تيار صاعد قوي دفع السحب نحو البحر المتوسط”. ويؤكد أن ما حدث لا يصنَّف كإعصار من الدرجة الأولى ولا كعاصفة مدارية أو شبه مدارية متوسطية، بل هو “عاصفة رعدية حادة من النوع الفائق”، مشيرًا إلى أن الضغط الجوي لم ينخفض عن 1000 هكتوباسكال، ما يدل على أنه نظام جوي شديد القوة نشأ في نطاق محدود، وترك أثرًا مباشرًا على سواحل شمال مصر، من الإسكندرية إلى بلطيم وإدكو وبرج البرلس. ويربط هذا النمط من العواصف بالتغيرات المناخية، لافتًا إلى أنها ليست الأولى من نوعها، لكنها غالبًا ما كانت تضرب مناطق غير مأهولة في الصحراء الغربية، ويُتوقع أن تزداد تكرارًا خلال السنوات المقبلة.

ويختتم سعيد بالإشارة إلى أن شبكات الصرف في مصر بحاجة إلى تطوير، كي تتمكن من استيعاب كميات الأمطار والسيول الناتجة عن الظواهر الجوية المتطرفة. كما يشدد على ضرورة التأكد من تثبيت الإعلانات الدعائية بشكل آمن لمواجهة الرياح الشديدة، التي بلغت خلال عاصفة الإسكندرية نحو 100 كيلومتر في الساعة. ورغم إشادته بالكفاءات العلمية داخل هيئة الأرصاد الجوية، يرى أن الهيئة تتجنب إصدار توقعات حادة، ولا توفر تحديثات مستمرة تراعي التغيرات السريعة في الحالة الجوية، مشيرًا إلى أن ما حدث “فاق جميع توقعات خبراء الأرصاد والطقس”.

خريطة تظهر تراكم الرطوبة البنائية للسحب الممطرة على شمال مصر
خريطة تظهر تراكم الرطوبة البنائية للسحب الممطرة على شمال مصر

تقول الدكتورة سوسن العوضي، الخبيرة في التغير المناخي والسياسات البيئية، إن مصر واقعة حاليًا تحت تأثير ظاهرة “اللانينيا”، رغم أن منشأها الأساسي يقع في المحيط الهادئ الاستوائي. وتوضح أن تأثير هذه الظاهرة يمتد إلى مناطق بعيدة جغرافيًا، بما في ذلك شرق البحر المتوسط وشمال إفريقيا، ومصر بشكل خاص. وتؤدي “اللانينيا” إلى انخفاض ملحوظ في درجات حرارة سطح المياه في شرق ووسط المحيط الهادئ، ما يترتب عليه اختلال في حركة التيارات الهوائية العالمية وأنماط الضغط الجوي، ويؤثر بالتبعية على أحوال الطقس في مناطق نائية.

وتشير العوضي إلى أن تأثيرات “اللانينيا” في مصر تتجلى في فصول شتاء أكثر برودة وجفافًا في بعض السنوات، نتيجة ضعف المنخفضات القادمة من البحر المتوسط وتراجع فرص الأمطار على السواحل الشمالية والوجه البحري. ويؤثر ذلك سلبًا على الموارد المائية وتوز��ع الرطوبة، كما يمكن أن يتسبب في اضطرابات زراعية ناتجة عن تأخر الأمطار أو تغير توقيت الفصول. وتلفت إلى أن هذه الظاهرة تؤثر كذلك على تدفقات نهر النيل، نتيجة لتغير أنماط الهطول المطري في أحواضه العليا في كل من السودان وإثيوبيا.

وفي حديثها إلى زاوية ثالثة، تقول العوضي: “سبق أن تأثرت مصر بظاهرة النينيو، والآن نحن تحت تأثير اللانينيا، وقد دخلنا مرحلة مناخية جديدة. ومن المتوقع خلال السنوات المقبلة ازدياد العواصف الرعدية، لا سيما في المناطق الساحلية على البحر المتوسط. هذه الظواهر مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بالتغيرات المناخية، ويجب مواجهتها عبر خطة وطنية طويلة المدى، تراعي الإقليم المناخي الجديد الذي تستقر فيه مصر”.

وتشدد على أن الظواهر المناخية، التي كانت تُعد في السابق دورات طبيعية متكررة، باتت اليوم أكثر حدة وتكرارًا بفعل تغير المناخ العالمي، ما يعقّد من جهود التكيّف معها. وتدعو إلى الانتقال من منطق الاستجابة إلى منطق الاستباق والتخطيط، عبر تعزيز نظم الإنذار المبكر، ودمج قضايا المناخ في سياسات الزراعة والمياه والتخطيط الحضري.

من جهته، يوضح حسام محرم، خبير البيئة والمستشار الأسبق لوزير البيئة، في حديثه إلى زاوية ثالثة، أن الكوارث الطبيعية التي تشهدها دول العالم أصبحت أكثر حدة، رغم أن كثيرًا منها كان نادر الحدوث في مصر أو يأتي بدرجات أخف، مثل الأعاصير والزلازل والفيضانات وموجات تسونامي. ويرى أن النمط الإنشائي السائد في مصر، والبنية الأساسية القائمة، قد تواجه تحديات كبيرة إذا طرأت تغيرات في شدة الكوارث الطبيعية، سواء كانت تلقائية أو مفتعلة.

ويشير إلى ضرورة تكليف الجامعات ومراكز البحوث بإعداد دراسات شاملة لجميع السيناريوهات المحتملة للكوارث الطبيعية، وتطوير الأكواد الهندسية الخاصة بالبناء المقاوم للزلازل، وتوسيع شبكات تصريف الأمطار والسيول، وتضمين ذلك في الخطط التنموية والإنشائية الجديدة. كما يدعو إلى تأهيل المباني القديمة لمقاومة هذه التغيرات، والاستفادة من التجارب الدولية الناجحة، مثل تجربة اليابان في التخفيف من آثار الزلازل، أو نماذج التعامل مع الأعاصير في الولايات المتحدة، والتي تمكنت من الحد من آثار الدمار، رغم قوة الكوارث.

ويقول محرم: “شهدت منطقة البحر المتوسط طفرة في الكوارث الطبيعية خلال الفترة الأخيرة، من بينها إعصار درنة الذي أودى بحياة الآلاف، وما حدث في الإسكندرية في أواخر مايو الماضي. هذه الظواهر تمثل جزءًا من التأثيرات المتوقعة للتغيرات المناخية العالمية، التي يرى المتخصصون أنها تنقسم إلى جزأين: أحدهما دورات طبيعية تتكرر على مدار العصور، والآخر ناتج عن تدخل بشري يرتبط بتطور التكنولوجيا واقتصاد الوقود الأحفوري منذ الثورة الصناعية”.

وفي ختام حديثه، يشير محرم إلى أهمية عدم إغفال بعض الفرضيات المتداولة حول الكوارث المصطنعة، والتي تُطرح في إطار ما يُعرف بحروب الجيل الجديد، وتُتهم فيها دول كبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين باستخدام تقنيات متقدمة في افتعال زلازل أو سيول أو أعاصير، دون خوض حروب تقليدية. ووفقًا لمعلومات متداولة في دوائر ضيقة، تُستخدم هذه الكوارث كوسيلة ضغط لتدمير اقتصاديات الدول المستهدفة، أو التأثير على إرادتها السياسية، أو إرباك حكوماتها أمام شعوبها، بما يجعلها شكلًا من أشكال الاعتداء غير المعلن، تجنبًا للتبعات القانونية والسياسية الدولية.

 

توهج شمسي وإنفجات شمسية

عزى أستاذ الموارد المائية والجيولوجيا بجامعة القاهرة، عباس شراقي، حالة عدم استقرار الأجواء في منطقة شرق المتوسط إلى حدوث انفجارات شمسية ووصول التوهج الشمسي من أشعة وجسيمات إلى الغلاف الجوي للكرة الأرضية ما قد يتسبب في ظواهر جوية شديدة، كاشفًا في تصريحات إعلامية، عن وقوع انفجارين شمسيين قويين، يوم الجمعة، تبعته موجة انفجارات شمسية أخرى في صباح السبت.

وكان مرصد الختم الفلكي التابع لمركز الفلك الدولي، قد وثق في ظهر يوم الأحد، وقوع حدوث عاصفة مغناطيسية أرضية وصلت إلى المستوى G3 في الساعة 07:21 من صباح الأحد بتوقيت غرينتش، نتيجة وصول انبعاثات إكليلية شمسية (CME) انطلقت من الشمس يوم 31 مايو في الساعة 00:15 بتوقيت غرينتش، متسببة في حدوث توهج شمسي من القوة M8.1 انطلق من مجموعة البقع الشمسية رقم AR4100.

وفي تصريحات إلى زاوية ثالثة، اعتبر عالم الفلك والفضاء المصري الأمريكي، الدكتور عصام حجي، أن الأنباء التي تنسب حالة عدم استقرار الأجواء في منطقة شرق المتوسط إلى حدوث الإنفجارات شمسية، غير صحيحة تستند إلى قراءات عامة وليس للأبحاث الحديثة، نافيًا أي صحة للشائعات المتداولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تعزي الأحداث المناخية والزلازل الأخيرة، إلى حدوث إنهيار مزعوم للدوامة القطبية تسبب في اضطراب بمحور دوران الأرض، أو وجود جرم سماوي عند كوكبة الجبار، يطلق موجات كهرومغناطيسية قوية تخترق الدرع المغناطيسي للأرض.

بدورها حذر مركز التنبؤ بالطقس الفضائي التابع للإدارة الوطنية الأمريكية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA) من أثار عاصفة جيو مغناطيسية من المستوى “الشديد (G4)” تصل الأرض اعتبارًا من الأحد الأول من يونيو، وتستمر تأثيراتها حتى الثلاثاء الموافق 3 يونيو، بعد الانفجار الذي حدث على الشمس في 30 مايو الماضي، محذرة من أن العاصفة قد يكون لها آثار سلبية على البنية التحتية الكهربائية وأنظمة الأقمار الصناعية وإشارات الملاحة، مما قد يؤدي إلى مشاكل في التحكم بالجهد وانقطاعات مؤقتة، خاصة في خطوط نقل الكهرباء.

 

نوصي للقراءة: كيف تسببت شركة “إعمار” الإماراتية في تآكل شواطئ مصرية؟

مزيد من انهيارات المباني

يُحذّر عالم الفضاء عصام حجي، من كون شدة العواصف في الإسكندرية وتغير أوقاتها ناتج عدة تغيرات مناخية ستؤدي أيضًا لمزيد من انهيارات المباني، مضيفًا، في تغريدة له عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي “إكس”: “حذرنا مرارًا وتكرارًا ولكن مع الأسف مازلنا نتعامل مع العلم بالاستخفاف والتكذيب من أصوات تخادع متخذي القرار، أحمّلهم المسؤولية”.

وكانت دراسة علمية حديثة، منشورة في فبراير المنقضي بمجلة Earth’s Future الدولية المتخصصة في الدراسات المناخية، أجراها فريق من علماء المناخ والبحار والفضاء، من بينهم عصام حجي، قادتها المهندسة المعمارية المصرية، سارة فؤاد، – في مشروع تعاون علمي فريد بين جامعات ألمانية وهولندية وأمريكية وتونسية ومصرية -، قد كشفت عن كون الإسكندرية شهدت أكثر من 280 حالة انهيار مبانٍ على سواحلها خلال العقدين الماضيين، وارتفاع حالات انهيار المباني الساحلية إلى عشرة أضعاف خلال العشرين عامًا الماضية في مدينة الإسكندرية المصرية، مُحذرة من تنامي الخطر على سواحل حوض البحر الأبيض المتوسط الجنوبي خاصة مدينة الإسكندرية المصرية، والذي يجعل نحو 7 آلاف مبنى بها، عرضة للانهيار، في ظل ارتفاع مستوى سطح البحر والتغيرات المناخية، مؤكدة وجود علاقة بين تراجع خط الساحل وهبوط التربة وانهيار المباني.

وتُبين الدراسة الممولة من جامعة كاليفورنيا ووكالة ناسا الأمريكية ومؤسسة فون هومبولت الألمانية، التي اعتمدت على تحليل صور الأقمار الصناعية الفوتوغرافية بين عامي 1974 و2021 لدراسة التغيرات المناخية والساحلية، أن انهيارات العقارات في الإسكندرية مرتبطة بتآكل السواحل نتيجة لاختلال توازن الرواسب، الناجم عن التوسع العمراني، بجانب ارتفاع مستوى سطح البحر، مما أدى إلى زيادة تسرب مياه البحر إلى طبقات المياه الجوفية الساحلية، وارتفاع منسوب تلك المياه وتآكل أسس المباني، الذي يُعجل بانهيارها.

وسبق أن أوضح حجي، أنه تم تسجيل 117 حالة انهيار بين عامي 2013 و2015 مقارنةً بحالة واحدة فقط بين عامي 2001 و2004، وتتركز هذه الانهيارات بشكل رئيسي في المناطق القريبة من البحر، مثل أحياء غرب الإسكندرية، والجمرك، ووسط المدينة، مما يؤكد التأثير المباشر للعوامل البيئية والمناخية على استقرار المباني، لافتًا إلى أنه تم اختيار الإسكندرية كنموذج رئيسي لهذه الدراسة نظرًا لموقعها الجغرافي الفريد كمدينة ساحلية تاريخية، مما يجعلها عرضة لتغيرات المناخ وارتفاع مستوى سطح البحر؛ إذ تعد المدينة مثالًا حيًا على التحديات التي تواجهها المدن الساحلية الأخرى، حيث تعكس نتائج البحث المخاطر المحتملة والتدابير الوقائية التي يمكن تطبيقها عالميًا.

وقال إلى زاوية ثالثة: “كلما تقدم مستوى منسوب البحر فإن المياه المالحة تدخل إلى المياه الجوفية وترفع منسوبها، فتصل إلى أساسات المباني، وتؤدي إلى تآكلها وانهيار المباني، وتؤثر على خواص صلابة التربة، فتؤدي إلى تشقق وميل الأبنية، وهبوط الأراضي، وبالنظر إلى المعدل السنوي لانهيار العقارات في المحافظة، الذي بلغ 40 انهيارًا، ومقارنته بعدد العقارات بها، والذي يصل إلى نحو نصف مليون عقار، فإن ذلك معدل كبير، لاسيما أن هناك عشرات الأرواح التي فقدت خلالها، وهناك 7 آلاف عقار مهدد بالانهيار، وكل عقار ينهار يهدد العقارات المحيطة به”، مؤكدًا أن سوء التخطيط المتهم بـ 50% من مسؤولية تلك الانهيارات.

وتشير بيانات تعداد المنشآت لعام 2017، الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إلى أن عدد العقارات الآيلة للسقوط، يبلغ 97535 عقاراً، موزعة على أنحاء الجمهورية، وتظهر الإحصائيات وجود 7 ملايين عقار مخالف في مصر، منها 2 مليون و184 ألف مخالفة خلال السنوات الأخيرة؛ فيما يُقدّر المركز المصري للحق في السكن، وجود 1.4 مليون عقار آيل للسقوط على مستوى الجمهورية.

 

نوصي للقراءة: انهيار عقارات بالإسكندرية: حين يصبح البحر عدوًا والفساد شريكًا

البنية التحتية

أثار غرق العديد من شوارع الإسكندرية في المياه، بعد تساقط للأمطار الغزيرة لم تتجاوز مدته 45 دقيقة، والتي أسفرت عن 48 تجمعًا لمياه الأمطار بمختلف أحياء المحافظة، – قبل تتعامل معها السلطات المحلية المختصة -، انتقادات للبنية التحتية بالمحافظة، والتي رأى البعض أنها غير مؤهلة لتحمل التغيرات المناخية.

وكان المهندس حسن الخطيب، وزير الاستثمار والتجارة الخارجية، قد أعلن في أبريل الماضي، أن مصر قامت بضخ استثمارات ضخمة في البنية التحتية خلال السنوات العشر الأخيرة، تجاوزت قيمتها 550 مليار دولار أمريكي، وهي التصريحات التي كررها بدوره حسام هيبة، الرئيس التنفيذى للهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة، في مايو المنقضي.

من ناحيته يرى الدكتور حسن مهدي، أستاذ هندسة الطرق بجامعة عين شمس، أنه من الصعب التنبؤ بعواقب التغيرات المناخية على البنى التحتية، وأن مصر كغيرها من دول العالم التي تشهد هطول للأمطار والسيول في غير مواسمها نتيجة لتلك التغيرات الطارئة، وبالتالي يجب الاستعداد لها باجراءات احترازية تتمثل في الاهتمام بمصارف مياه الأمطار والسيول، والدراسات الخاصة بتصريف المياه السطحية في كل دراسات الطرق، بشكل أكثر كثافة، وذلك فيما يخص كافة مشروعات الطرق، موضحًا إلى زاوية ثالثة أن الطرق الواقعة على المناطق الجبلية هي الأكثر عرضة تجمع مياه السيول، وتتطلب تنفيذ إجراءات تصريف السيول بشكل آمن كي لا تتسبب في قطع الطريق أو تدميره، وبحكم طبيعة تصميم بعض الطرق تكون هناك مناطق منخفضة، تحدث بها تجمعات لمياه الأمطار في بعض المواضع، ويمكن التغلب عليها من خلال تحديدها جغرافيًا ووضع بلاعات لتصريف مياه الأمطار بشكل سريع.

ويشير أستاذ هندسة الطرق إلى إمكانية مواجهة العواصف الرعدية، عبر عملية التأريض الكهربائي، – هو عملية ربط هيكل الجهاز أو الأجهزة الكهربائية بالأرض لضمان السلامة وتوفير مسار آمن لتفريغ التيار الكهربائي الزائد أو في حالة عطل -، ويمكن تطبيق ذلك على أعمدة الإنارة في الطرق وعلى أسطح المباني.

بينما يؤكد الدكتور عبدالله أبو خضرة، أستاذ هندسة الطرق والنقل بجامعة بني سويف، أنه في ظل تأثيرات التغيرات المناخية التي تأثرت بها مصر، أصبحت هناك ضرورة حتمية لإجراء دراسات بيئية و دراسات هيدرولوجية في كافة مشروعات الطرق، – وهي دراسات متخصصة تهتم بدراسة سلوك المياه في البيئة الطبيعية، وتوزيعها وحركتها وخصائصها، وتعد ضرورية في تصميم المشاريع الهندسية التي تتفاعل مع المياه بشكل مباشر أو غير مباشر، مثل: السدود والجسور والطرق والمباني -، وهو إجراء بدأت الدولة في اتخاذه في الفترة الأخيرة، مع الأخذ في الاعتبار كافة التغيرات التي تحدث وعمل مصارف لمياه الأمطار، لاسيما في المحافظات الساحلية، وتوجيهها إلى مخرات السيول، وتعظيم الاستفادة منها ولاسيما في المنطقة الشرقية، كما تم بناء عدد من السدود في المحافظات لتجنب أضرارها.

يقول لزاوية ثالثة: “تم تحسين البنية التحتية في محافظة الإسكندرية والتي شهدت تحسنًا في مواجهة مياه الأمطار، عما كانت عليه في العهود السابقة، إذ تم عمل شبكة لصرف مياه الأمطار في الطرق الرئيسية والداخلية، ويتم تخصيص ميزانية لذلك، مع تعزيز الاستفادة من تلك المياه في الزراعة واستصلاح الأراضي، ضمن مشروع الـ5 مليون فدان في توشكى والدلتا الجديدة وسيناء وصعيد مصر”.

ويشير أبو خضرة، إلى أن مصر لديها توجه عام باستخدام وسائل النقل الأخضر الصديقة للبيئة، ورصدت 2 تريليون جنيه لتطوير بدائل النقل، من بينهم 1.1 تريليون جنيه للتحول للنقل الأخضر الجماعي، ومبادرة الرئيس للمواصلات الكهربائية ومعدات الشحن والتفريغ النظيفة، وتطبيق المعايير البيئية للموانئ النظيفة، في محاولة لإيجاد حلول جذرية، بدلًا من المسكنات التي كانت تتخذ في عهود سابقة.

 

نوصي للقراءة: تعديلات قانون البيئة.. أرباح الشركات في مواجهة صحة المصريين

تحركات برلمانية

في أعقاب عاصفة الإسكندرية تقدم النائب كريم السادات، عضو مجلس النواب، بطلب إحاطة عاجل إلى المستشار الدكتور حنفي جبالي، رئيس المجلس، موجّه إلى هيئة الأرصاد الجوية، على خلفية القصور في التحذيرات الجوية التي سبقت موجة السيول التي ضربت محافظة الإسكندرية فجر السبت، وتسببت في أضرار مادية وفزع بين المواطنين، مؤكدًا على ضرورة تحديث وتطوير منظومة الأرصاد الجوية، وحاجة الهيئة إلى تعزيز قدراتها الفنية والتقنية لمواكبة التغيرات المناخية المفاجئة التي أصبحت سمة الطقس في مصر خلال السنوات الأخيرة.

فيما تقدم النائب البرلماني محمود عصام، عضو مجلس النواب، السبت،  بطلب إحاطة إلى المستشار الدكتور حنفي جبالي، رئيس مجلس النواب، بشأن الآثار الخطيرة للتغيرات المناخية على محافظة الإسكندرية، داعيًا إلى تدخل عاجل من رئيس مجلس الوزراء ووزراء البيئة والتنمية المحلية والموارد المائية لمواجهة هذه التحديات.

واعتبر النائب أن ما حدث في الإسكندرية هو إنذار صريح بكارثة أكبر قادمة، نظرًا للتغيرات المناخية المتسارعة بشكل مخيف، مبينًا أن هناك دراسات تقول إن سنة 2050 قد يغرق ثلث المدينة، مستغربًا أن تضرب عاصفة بهذا العنف وأمطار ثلجية، الإسكندرية في آخر مايو الذي هو بداية المصيف في أهم مدينة ساحلية في مصر، داعيًا إلى خطة عاجلة على أعلى مستوى للتعامل مع التغيرات المناخية في الإسكندرية. 

وخلال مشاركتها في الجلسة العامة لمجلس الشيوخ، الإثنين، علقت الدكتورة ياسمين فؤاد، وزيرة البيئة، على الآثار المناخية الأخيرة في الإسكندرية، قائلة: “إن مصر رغم انبعاثاتها المحدودة لغازات الاحتباس الحراري عالميًا، إلا أنها من أكثر الدول تأثرًا بآثار تغير المناخ خاصة في الدلتا والسواحل المصرية، لذا منذ توقيعها على اتفاق باريس في 2015، اتخذت العديد من الإجراءات التي تضمن التكيف قدر الإمكان مع تلك الآثار، وأن ما شهدته الإسكندرية منذ أيام جاء اقل حدة من المتوقع بفضل هذه الاجراءات”.

وأوضحت الوزيرة أن مصر وضعت التكيف هدفا أساسيا في استراتيجيتها الوطنية لتغير المناخ 2050، كما بدأت وزارة الموارد المائية والري إجراءات حماية الشواطئ بما فيها الإسكندرية منذ 8 سنوات بتكلفة 8 مليار جنيه، في مدن الإسكندرية ورشيد ومرسى مطروح ودمياط وكفر الشيخ والبحيرة، من خلال تنفيذ الحلول القائمة على الطبيعة، لافتة إلى أن مجلس الوزراء أصدر خطة مواجهة نوبات الطقس الجامحة في 2020، بجانب العمل على الخريطة التفاعلية لتغير المناخ بالتعاون مع المساحة العسكرية ووزارات البيئة والموارد المائية والآثار، للتنبؤ بالآثار المستقبلية لتغير المناخ على المناطق المختلفة في الجمهورية بناءا على المعلومات والبيانات الحالية. 

ختامًا يمكن القول إن عاصفة الإسكندرية الأخيرة، قد أثارت التساؤلات حول مدى جاهزية البنية التحتية في المدن الساحلية المصرية أمام الظواهر المناخية المتطرفة، والقدرة على مواجهة ما هو قادم، في وقتٍ يؤكد فيه الخبراء أن ما حدث يعد مؤشرًا على مستقبل مناخي أكثر اضطرابًا، يتطلب إطلاق استراتيجيات شاملة طويلة المدى، وتحولًا جذريًا في التخطيط العمراني والإنشائي، وتطويرًا عاجلًا لأنظمة الرصد والإنذار المبكر، وإدماج المناخ في السياسات العامة للدولة. 

وإذا كانت الإسكندرية، بتاريخها العريق وموقعها الحيوي، قد تلقت إنذارًا من الطبيعة، فربما يكون الوقت قد حان لتحويل هذا الإنذار إلى فرصة للنجاة، قبل أن تدق العواصف القادمة أبواب مدن أخرى دون استعداد حقيقي لمواجهتها.

 

آية ياسر
صحافية وكاتبة وروائية مصرية حاصلة على بكالوريوس الإعلام- جامعة القاهرة.

Search