تسارعت وتيرة انهيار العقارات السكنية القديمة في محافظة الإسكندرية، خلال الفترة الأخيرة، وكان أحدث تلك الحوادث الأليمة، سقوط عقار قديم بمنطقة حارة النخلة، التابعة لحي الجمرك، في الثالث من إبريل الجاري، والذي أودى بحياة 5 أشخاص بينهم أم وأبنائها الثلاثة، وإصابة زوجها، وخلال اليوم نفسه تسبب انهيار شرفة شقة سكنية بعقار قديم، صادر له قرار ترميم لعام 2021، في منطقة الجزيرة الخضراء بحي المنتزه أول شرق الإسكندرية، في مصرع سيدة أربعينية أثناء وقوفها بشرفة منزلها.
ويلاحظ مراقبون زيادة في حوادث الإنهيار الكلي أو الجزئي للعقارات السكنية، بدءاً من عام 2023 إلى 2025، الأمر الذي يرى البعض أنه يعكس تدهور حالة العقارات وتزايداً في إهمال المحليات بالمحافظة، في حين يشير متخصصون بأصابع الاتهام إلى التغيرات المناخية والبيئية التي ألقت بظلالها على البيئات الساحلية في دول حوض البحر الأبيض المتوسط، وعلى رأسها ارتفاع منسوب مياه البحر وظاهرة النحر البحري أو تآكل الشواطئ.
وتؤكد دراسة علمية بعنوان “الضعف الساحلي المقلق للشواطئ الدلتا والرملية في شمال إفريقيا”، نُشرت في موقع “nature”، عام 2021، أن سواحل شمال إفريقيا ، الممتدة على مدى 4633 كيلومترا من خليج تونس إلى دلتا النيل، تشهد تراجعات واضحة على الشاطئ وفيضانات ساحلية، نتيجة للارتفاع المستمر في مستوى سطح البحر الناتج عن الاحتباس الحراري، وأن ديناميكيات الخط الساحلي غير الطبيعية للشواطئ الدلتا والرملية، تتأثر بشدة بالتقلبات العقدية المفاجئة لكل من الدوافع المناخية والبشرية المنشأ؛ مما يؤدي إلى زيادة تعرضها للاضطرابات الناجمة عن الأخطار الساحلية.
وتتكون السواحل الرسوبية المتاخمة لحوض البحر الأبيض المتوسط بشكل أساسي من مواد أرضية وبحرية حيوية، ووفقًا للدراسة فإن الرواسب الأرضية كان يتم تصريفها في البحر بواسطة الأنهار الدلتية طوال الألفية الماضية، إلى أن بناء السدود في العقود الأخيرة أدى إلى تقليل نقل رواسب الأنهار إلى السواحل بشكل كبير، كما هو الحال بالنسبة لنهر النيل في مصر، الأمر الذي جعل سهول المصب تعاني من التراجع الشديد عن الشواطئ وتملح طبقات المياه الجوفية الساحلية، محذرة من أن الخريطة الإحصائية لمؤشر الضعف الساحلي المتكامل، تظهر أن 47٪ من سواحل شمال إفريقيا القاحلة لديها قابلية عالية إلى عالية جدًا لحدوث ذلك، وأن سواحل الدلتا المكتظة بالسكان في كل من تونس ومصر، هي أكثر عرضة لذلك بنسبة 70٪ من أي ساحل آخر في حوض شرق البحر الأبيض المتوسط، فيما تعد 1 إلى 3٪ من السواحل القاحلة الممتدة على طول تونس وليبيا ومصر، معرضة لخطر كبير من الغمر البحري، بحلول عام 2100، بسبب متوسط ارتفاع مستوى سطح البحر بمقدار 1.11 متر.
وتآكلت السواحل المصرية بين عامي 1984 و2016، بمتوسط 0.1 متر كل عام، وفقًا لبحث صادر عن البنك الدولي، في مارس 2022، أوضح أن التركيب الجيولوجي للشواطئ الرملية وسواحل الدلتا التي تصطف على البحر الأبيض المتوسط يجعلها معرضة بشكل خاص لارتفاع منسوب مياه البحر، وأن بعض الامتدادات من الساحل المصري بأنها أكثر عرضة للتآكل من غيرها، مُحذرًا من الآثار المحتملة لظاهرة تآكل السواحل، على السياحة والبنية التحتية الصناعية والمجتمعات السكنية على طول سواحل مصر، ويحتمل أن تتسبب في خسائر اقتصادية فادحة خلال السنوات المقبلة.
ويحذر التقرير من أن حوالي 30% من الإسكندرية قد تغمره المياه إذا ارتفع مستوى سطح البحر بمقدار 0.3 متر فقط، مما سيؤدي لتشريد نحو 545 ألف شخص وفقدان 70.5 ألف وظيفة في الإسكندرية وحدها، وتتعرض بورسعيد ومدن أخرى على ساحل الدلتا، لمخاطر مماثلة.
صورة ملتقطة عبر الأقمار الصناعية تظهر النحر البحري لسواحل الإسكندرية – المصدر: Google earth
وسبق أن أكدت دراسة علمية بعنوان: “أثر التدخلات البشرية والعمليات الساحلية على طول ساحل دلتا النيل ، في مصر خلال الـ25 عامًا الماضية”، نُشرت عام 2016، في المجلة المصرية لبحوث الأحياء المائية، الصادرة عن المعهد القومي لعلوم البحار والمصايد، من أن المنطقة الساحلية لدلتا النيل التي تحوي مدنًا مكتظة بالسكان كالإسكندرية وبورسعيد، وتمثل المورد الصناعي والزراعي والاقتصادي الرئيسي للبلاد، تعرضت المنطقة لمشاريع إنمائية واسعة النطاق ومفرطة غير مخطط لها لتعزيز الوضع الاقتصادي للمجتمعات المحلية ، إلاّ أنها أثرت سلبًا على استخدام الأراضي وخصائص الغطاء الأرضي، مُبينة أن معالجة صور الأقمار الصناعية لتحديد فئات استخدام الأراضي (من 1990 إلى 2014) أظهرت تغييرات كبيرة في الخط الساحلي أدت إلى حدوث مناطق تآكل (بحد أقصى 24-36 مترا / سنة) ومناطق تراكم أخرى (مساحة إجمالية متراكمة تبلغ 3.14 كم2) مع تراجع إجمالي قدره 2.7 كم2 على طول الخط الساحلي.
وحذرت الدراسة من أن التغيرات المتوقعة في المناخ وارتفاع مستوى سطح البحر، ستؤدي إلى تفاقم معدل التعرية والوضع العام للمنطقة الساحلية، واستنادًا إلى سيناريوهات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (أي ارتفاع مستوى سطح البحر بمقدار 59 سم بحلول نهاية هذا القرن) والهبوط الأرضي المقترح (2.5 ملم في السنة)، فإن خمس دلتا النيل، ستكون عرضة بشكل خطير للغمر.
نوصي للقراءة: كيف تسببت شركة “إعمار” الإماراتية في تآكل شواطئ مصرية؟
أكثر الأحياء تعرضًا للانهيارات
بفحص أخبار الصحف الرسمية خلال الفترة من يناير 2023 وحتى إبريل 2025) رصدت زاوية ثالثة، 43 حالة انهيار لعقارات سكنية في محافظة الإسكندرية، تنوعت بين انهيار جزئي: 20 حالة (46.5%)، وانهيار كامل: 18 حالة (41.9%) وسقوط شرفة عقار: 5 حالات (11.6%)، وبلغ إجمالي عدد وفيات ضحايا تلك الحوادث 32 حالة وفاة، في حين بلغ عدد المصابين في تلك الحوادث 37 مصابًا.
ومن خلال تتبع الحوادث عبر الزمن، يظهر أن أكثر الفترات تكراراً للانهيارات كانت خلال أشهر يناير وفبراير، ويوليو وأغسطس من عامي 2023، 2024، وكان شهر يناير 2023 عام هو الذروة في عدد الحوادث، إذ شهدت أعلى عدد من الحوادث (5 حوادث) مقارنة ببقية الأشهر، وشهدت أشهر الصيف فترات ارتفاع ملحوظ في الحوادث، مما قد يشير إلى وجود عوامل تتعلق بالظروف الجوية أو إقامة أعداد كبيرة من المصطافين في هذه الفترات.
ويظهر التحليل الجغرافي للمناطق الأكثر تعرضًا لانهيار العقارات في محافظة الإسكندرية، ضمن عينة الأخبار، خلال الفترة الزمنية المذكورة، أن حي الجمرك هو أكثر الأحياء تعرضًا للانهيارات، بما في ذلك انهيارات جزئية وكاملة، وسقوط شرفات في عدة مناسبات، إذ سجّل 15 حادثًا انهيارات جزئية وكاملة، سقوط شرفات، سقوط أجزاء من شرفات، وكانت العقارات المنهارة قديمة ومتهالكة، بعضها غير مرخص أو صدر له قرار ترميم، وفي المرتبة الثانية جاء حي كرموز مُسجلًا 5 حوادث تنوعت بين ا��انهيار كامل، وسقوط شرفات عقارات قديمة بعضها صدر له قرارات إزالة، وحلّ حي الورديان ثالثًا، إذ سجّل 4 حوادث شملت انهيار كامل، سقوط شرفات عقارات قديمة، وجاء رابعًا وسط الإسكندرية، الذي شهد 4 حوادث انهيار جزئي وكامل، سقوط شرفات عقارات قديمة بعضها صدرت له قرارات ترميم، ثم حي شرق الإسكندرية مُسجلًا 3 حوادث لانهيار جزئي وكامل لعقارات قديمة، وكان كلٍ من حي سيدي بشر وحي باكوس، في المركز السادس، إذ سجل كلاً منهما حادثي انهيار كامل لعقارين قديمين، صدر قرار إزالة جزئية لأحدهما، في حين وقعت حوادث متفرقة في أحياء: (الإبراهيمية، السيوف، بحري، العصافرة، المنتزه ثان)، وكانت غالبيتها عقارات قديمة.
وبملاحظة أنماط الانهيار في أحياء الإسكندرية المختلفة، يتضح تكرار الحوادث جزئياً وكليًا، بشكل لافت، في الجمرك بسبب العقارات القديمة غير المرخصة أو التي صدرت لها قرارات إزالة أو ترميم، وفي كرموز والورديان، كانت الحوادث أكثر خطورة وشملت انهيارات كاملة، تعكس الإهمال وعدم تفعيل قرارات الإزالة أو الترميم، كما تكرر حدوث انهيارات جزئية بشكل ملحوظ في الجمرك والإبراهيمية وسيدي بشر، أما الانهيارات الكلية للعقارات فكانت الأكثر فتكًا من حيث الأضرار البشرية، وخاصة في سيدي بشر، الورديان، وكرموز، إذ تسببت في وفيات وإصابات.
وفي أغلب الحوادث كانت العقارات قديمة أو مهجورة أو غير مرخصة، والعديد من العقارات المهددة بالانهيار كانت قد أُصدرت لها قرارات إزالة أو ترميم لم تنفذ، مما يعكس وجود تقصير في الرقابة، ويشير تكرار سقوط الشرفات نتيجة التهالك، إلى وجود خلل في عمليات الصيانة والترميم، أو غياب الفحص المنتظم للبناء.
وتشير بيانات تعداد المنشآت لعام 2017، الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إلى أن عدد العقارات الآيلة للسقوط، يبلغ 97535 عقاراً، موزعة على أنحاء الجمهورية، وتظهر الإحصائيات وجود 7 ملايين عقار مخالف في مصر، منها 2 مليون و184 ألف مخالفة خلال السنوات الأخيرة؛ فيما يُقدّر المركز المصري للحق في السكن، وجود 1.4 مليون عقار آيل للسقوط على مستوى الجمهورية.
نوصي للقراءة: رشاوٍ وحقوق مهدرة.. 23 ألف قضية فساد عقاري في مصر
7 آلاف مبنى عرضة للانهيار
وفقًا للإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA)؛ فإن مستويات البحر آخذة في الارتفاع بسرعة، من 1.4 ملم سنويا خلال معظم القرن العشرين إلى 3.6 ملم سنويا من 2006 إلى 2015، ومنذ عام 1880 ارتفعت المحيطات بحوالي 20-23 سم، ويتوقع العلماء حدوث ارتفاع إضافي يبلغ 0.3 متر بحلول عام 2030.
ويمثل ذلك تهديدًا كبيرًا لعشرات المدن الساحلية الكبرى في أفريقيا، إذ سيؤدي إلى تقلص مساحة الأرض اليابسة، وحدوث الفيضانات الساحلية، وزيادة فرص هبوب العواصف الشديدة، مما سيؤثر بدوره على نحو 117 مليون شخص في أفريقيا، بحسب مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية، ويعزي العلماء ارتفاع منسوب البحر المتزايد إلى الاحتباس الحراري الناجم عن الأنشطة البشرية، مما يؤدي إلى التمدد الحراري لمياه البحر وذوبان الصفائح الجليدية.
وكشفت دراسة علمية حديثة، منشورة في فبراير المنقضي بمجلة Earth’s Future الدولية المتخصصة في الدراسات المناخية، أجراها فريق من علماء المناخ والبحار والفضاء بقيادة المهندسة المعمارية المصرية، سارة فؤاد، – في مشروع تعاون علمي فريد بين جامعات ألمانية وهولندية وأمريكية وتونسية ومصرية -، عن كون الإسكندري�� شهدت أكثر من 280 حالة انهيار مبانٍ على سواحلها خلال العقدين الماضيين، وارتفاع حالات انهيار المباني الساحلية إلى عشرة أضعاف خلال العشرين عامًا الماضية في مدينة الإسكندرية المصرية، مُحذرة من تنامي الخطر على سواحل حوض البحر الأبيض المتوسط الجنوبي خاصة مدينة الإسكندرية المصرية، والذي يجعل نحو 7 آلاف مبنى بها، عرضة للانهيار، في ظل ارتفاع مستوى سطح البحر والتغيرات المناخية، مؤكدة وجود علاقة بين تراجع خط الساحل وهبوط التربة وانهيار المباني.
وتُبين الدراسة الممولة من جامعة كاليفورنيا ووكالة ناسا الأمريكية و مؤسسة فون هومبولت الألمانية، التي اعتمدت على تحليل صور الأقمار الصناعية الفوتوغرافية بين عامي 1974 و2021 لدراسة التغيرات المناخية والساحلية، أن انهيارات العقارات في الإسكندرية مرتبطة بتآكل السواحل نتيجة لاختلال توازن الرواسب، الناجم عن التوسع العمراني، بجانب ارتفاع مستوى سطح البحر، مما أدى إلى زيادة تسرب مياه البحر إلى طبقات المياه الجوفية الساحلية، وارتفاع منسوب تلك المياه وتآكل أسس المباني، الذي يُعجل بانهيارها.

ويوضح عالم الفضاء والفلك المصري الأمريكي عصام حجي، الذي شارك في الدراسة، أنه تم تسجيل 117 حالة انهيار بين عامي 2013 و2015 مقارنةً بحالة واحدة فقط بين عامي 2001 و2004، وتتركز هذه الانهيارات بشكل رئيسي في المناطق القريبة من البحر، مثل أحياء غرب الإسكندرية، والجمرك، ووسط المدينة، مما يؤكد التأثير المباشر للعوامل البيئية والمناخية على استقرار المباني، لافتًا إلى أنه تم اختيار الإسكندرية كنموذج رئيسي لهذه الدراسة نظرًا لموقعها الجغرافي الفريد كمدينة ساحلية تاريخية، مما يجعلها عرضة لتغيرات المناخ وارتفاع مستوى سطح البحر؛ إذ تعد المدينة مثالًا حيًا على التحديات التي تواجهها المدن الساحلية الأخرى، حيث تعكس نتائج البحث المخاطر المحتملة والتدابير الوقائية التي يمكن تطبيقها عالميًا.
ويعزي حجي السبب الرئيسي لهذه الظاهرة إلى تغير ديناميكيات السواحل، حيث أدى تآكل الشواطئ إلى تسرب مياه البحر إلى خزانات المياه الجوفية الساحلية، مما ��دى إلى ارتفاع منسوب المياه الجوفية وتغيير استقرار التربة، مما أدى إلى ضعف أساسات المباني وتآكل المواد الإنشائية مثل الخرسانة والفولاذ والطوب، مما جعل الهياكل أكثر عرضة للانهيار. كما ساهمت العواصف المدارية المتزايدة وما يصاحبها من موجات عاتية في تسريع هذه العمليات وإضعاف البنية التحتية الساحلية، كما لعب هبوط الأرض المستمر دورًا رئيسيًا في ارتفاع معدلات انهيار المباني، خاصة في المناطق التي شهدت عمليات استصلاح أراضٍ واسعة، مما تسبب في حدوث تشوهات غير متساوية في أساسات المباني، مما زاد من مخاطر التصدع والانهيار الهيكلي، لافتًا إلى أن هذه الظاهرة ليست محصورة في الإسكندرية، بل تمت ملاحظتها في مدن ساحلية أخرى مثل ميامي والمكسيك والبرازيل، حيث أدى الهبوط الأرضي إلى تهديدات كبيرة للبنية التحتية.
يقول د. عصام حجي، إلى زاوية ثالثة: “كلما تقدم مستوى منسوب البحر فإن المياه المالحة تدخل إلى المياه الجوفية وترفع منسوبها، فتصل إلى أساسات المباني، وتؤدي إلى تآكلها وانهيار المباني، وتؤثر على خواص صلابة التربة، فتؤدي إلى تشقق وميل الأبنية، وهبوط الأراضي، كما حدث مع كورنيش الإسكندرية عام 2023 وأماكن أخرى، وبالنظر إلى المعدل السنوي لانهيار العقارات في المحافظة، الذي بلغ 40 انهيارًا، ومقارنته بعدد العقارات بها، والذي يصل إلى نحو نصف مليون عقار، فإن ذلك معدل كبير، لاسيما أن هناك عشرات الأرواح التي فقدت خلالها، وهناك 7 آلاف عقار مهدد بالانهيار، وكل عقار ينهار يهدد العقارات المحيطة به، لكن الأمر يتعدى المسألة الإحصائية، لأنه يجب ألا ننتظر حتى تموت أعداد أكبر”.
ويضيف حجي: “قمنا في 2021 بإجراء دراسة آثار سوء التخطيط العمراني في الشريط الساحلي على عملية تآكل السواحل؛ إذ أن الجدران الإسمنية التي تحول دون وصول الأتربة إلى الشواطئ، تساهم في عملية تآكلها، والتي تتعرض بالأساس إلى تغييرات بيئية وهيدروليكية، مما يؤدي إلى الإنهيارات المتتالية للعقارات، لذا يعد سوء التخطيط المتهم بـ 50% من مسؤولية تلك الانهيارات، وبحثنا الذي استغرق ثلاث سنوات من البحث، ونشر في أكبر مجلة علمية، يدور حول تآكل الشواطئ وتغير التربة في الإسكندرية الذي يؤدي لتآكل أساسات المباني، وليس حول غرق الإسكندرية، كما أشاعت بعض وسائل الإعلام، وهدفنا دراسة المشكلة من كل جوانبها وتقديم رؤية متكاملة ونشر الوعي”.
ويُبين أن التربة في الإسكندرية ذات خواص هندسية هشة، ودخول مياه البحر إليها يجعلها أكثر هشاشة، مما يظهر عيوب البناء، ويسبب الانهيارات، ويمكن مواجهة هذه المشكلة بتعريض الشريط الساحلي للرمال الصناعية ووضع شريط حول المدينة ومصدات تحميها من مياه البحر، بحسب ما اقترحت الدراسة، لكن لن تحل المشكلة دون وعي بمخالفات الإنشاءات التي تتسب في خسارة الأرواح، وتقبل من الجمهور للحلول وفكرة تغيير الشريط الساحلي؛ إذ يجب على الحكومة سرعة التحرك ومد الشواطئ لعشرات الأمطار داخل البحر، لما كانت عليه قبل حدوث التآكل.
وسبق أن بيّنت دراسة صادرة عن مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية، في عام 2022، أنه بالإضافة إلى التهديدات التي تواجه المدن الساحلية نتيجة ارتفاع مياه البحر وهبوب العواصف؛ فإنها تواجه أيضًا التهديد غير المرئي من ارتفاع المياه الجوفية ، وتحويل المناطق الحضرية إلى أراضٍ رطبة، والتي ستواجه على إثرها أزمات البنية التحتية والصحة العامة من تآكل الطرق وأسس البناء إلى التدفق الارتدادي للصرف الصحي، وتسريب أنظمة الصرف الصحي، والبرك المغمورة التي تحولت إلى موطن لتكاثر الميكروبات، وتلوث طبقات المياه الجوفية الساحلية، التي توفر مياه للشرب وري المحاصيل.
نوصي للقراءة: تعديلات قانون البيئة.. أرباح الشركات في مواجهة صحة المصريين

ذوبان الجليد والاحترار العالمي
يشرح د. مجدي علام، مستشار برنامج المناخ العالمي وأمين عام اتحاد خبراء البيئة العرب، أن ذوبان الجليد يحدث بشكل أساسي في القطبين الشمالي والجنوبي، أكبر مخزنين للمياه على الكرة الأرضية، وهناك أيضًا مناطق في المحيطات يحدث بها تجمد للمسطحات المائية في فترات البرودة الشديدة، وحين يذوب الجليد نتيجة السخونة الناتجة عن الاحترار العالمي، ترتفع المستويات في المسطحات الخازنة للمياه، ويرتبط الأمر أيضًا بحركة الملاحة، مبينًا أن مشكلة ارتفاع منسوب مياه البحر المتوسط لا تخص الإسكندرية وحدها، بل 40 مدينة تطل عليه، نتيجة للتيارات الآتية من المحيط، ومصب نهر النيل في فرعي دمياط ورشيد، مما يؤدي لغمر بعض المناطق الشاطئية، لذا يتم إنشاء الألسنة البحرية وحوائط صد الأمواج، للحد من ظاهرة النحر البحري للشواطئ نتيجة اصطدامها بالأمواج العنيفة.
يقول إلى زاوية ثالثة: “أنفقت مصر 750 مليون دولار للحفاظ على شاطئ البحر المتوسط بين دمياط ورشيد، كي لا تتغول المياه وتغمر الدلتا، وقام السكان بعمل إنشاءات خرسانية، أصبحت بمثابة سد لمواجهة ارتفاع منسوب مياه البحر والتيارات المائية العنيفة لتخفيفها، وتمت السيطرة على كثير من مناطق تآكل المساحات الرملية في البرلس وبورسعيد والمنطقة بين دمياط ورشيد، والتي كانت محاصيل الأرز بها تتعرض للغرق بمياه البحر”.
فيما ترى المهندسة المعمارية إنجي الحسيني، المتخصصة في العمارة الذكية والعمارة البيومناخية، أن السبب الرئيسي في تهديد بعض عقارات محافظة الأسكندرية يرجع إلى البناء المخالف والعشوائي بدون رخيص والذي يمثل ضغطًا على مرافق المدينة والبنية التحتية، إضافة إلى وجود حالة من تكدس المنشآت وتكثيف المباني بالقرب من شواطئ المحافظة الساحلية، تفتقد لمعايير الجودة والسلامة العالية حيث تقل مساحة الشاطئ، بسبب تعدي المباني على خط الساحل مثل: بناء المطاعم و”الكافيهات” والفنادق والتي مثلت تحميلا آخر على أساسات المدينة وشواطئها ومبانيها، الأمر الذي يؤثر في إخلال النظام البيئي المائي وتهديد الأحياء البحرية، نتيجة لارتفاع نسبة التلوث نتيجة انتشار الغازات السامة الناجمة عن التخلص من النفايات وماء الصرف الصحي، كل تلك الأسباب مجتمعة تؤثر بالتالي على التربة وكذلك على أساسات العقارات خاصة تلك التي لم تراعِ مواصفات البناء من الناحية الإنشائية نتيجة للغش في الحديد والأسمنت.
تقول إلى زاوية ثالثة:
“بحكم عملي في فترة سابقة بأحد المراكز البحثية، تناولنا مشكلات وفساد المحليات، فعلى سبيل المثال؛ كيف لمبنى مكون من ثمانية أدوار يحصل على تسهيلات في البناء لتصل عدد الأدوار لـ 17 طابق وأحيانًا 20 طابق، مما يمثل تحميلًا على التربة، والتي لم تكن مجهزة لتلك الأحمال، نظرًا للضغط على أنظمة تغذية المياة و الصرف الصحي للمباني وشبكات الصرف العمومية”.
وتضيف أنه في ضوء الدراسات التي تحذر من تسارع تآكل سواحل الإسكندرية وزيادة النحر البحري، بسبب ارتفاع منسوب ماء البحر وتسرب الماء المالح للأساسات نتيجة التغيرات المناخية؛ فإن ذلك يمثل تحديًا آخر قد يهدد الأبنية والمنشآت والطرق، ويمكن تدارك ذلك بإقامة الحواجز والسواتر المصنوعة من مواد مستدامة صديقة للبيئة والتي تقلل من حجم الفيضانات، مع توظيف الوسائل الذكية لتخزين ماء المطر و إعادة تدويره، وكذلك توفير أنظمة صرف للتخلص من البرك التي تخلفها مياه الأمطار الغزيرة نتيجة للغمر الساحلي المرتبط بالموجات العالية والتي لا تستوعبها بلاعات الصرف الصحي مما يؤثر على أساسات الأبنية والعقارات خاصة المخالفة منها.
نوصي للقراءة: كوارث بيئية تهدد أهالي بني سويف الجديدة
العشوائية وغياب دراسات البناء
يُؤكد المهندس المعماري، المتخصص في العمارة البيئية، محمد عيسى، إلى زاوية ثالثة، أن التغيرات المناخية تؤثر على المباني لا سيما في البيئات الساحلية، نظرًا لارتفاع نسبة الملوحة والرطوبة، لذا يجب عمل حماية للمباني منها كي لا تصل الرطوبة والأملاح للهيكل الخرساني وتؤدي إلى صدأ الحديد، مما يؤدي إلى إصابة المبنى بالشيخوخة والسرطان، وقد يسقط بعد ذلك نتيجة حفر أو بناء قريب منه، لافتًا إلى أن هناك كود للتصميم الإنشائي للمباني السكنية وتسليحها، ويكون لها عمر افتراضي وبعده يجب عمل تجديد وترميم للمبنى لأن كفاءته تقل تدريجيًا، أو يتم إصدار قرار إزالة، حسب حالة المبنى.
ويُعزي المعماري البيئي انهيارات العقارات في الإسكندرية إلى العشوائية وغياب دراسات البناء ومعايير وكود السلامة، مُعتبرًا أن المباني المبنية حديثاً منذ الثمانينات والتسعينيات والألفية الثالثة هي الأكثر عرضة للضرر، لا سيما تلك المبنية خلال فترة ثورة يناير ٢٠١١، بسبب عشوائية البناء، مُبينًا أنه يجب قبل عملية البناء أن يتم فحص التربة ونوعها، بالاستعانة بمختبرات متخصصة، وقياس منسوب المياه ومعرفة نوعها سواء مالحة أو عذبة، وهل تحتاج إلى عمليات شفط دائم للمياه؟، كما حدث مع فندق سان ستيفانو، وهو ما يحدد طبيعة مواد البناء التي يستخدمها المعماريون، والحفر المناسب، اللازم للتأسيس، وفقًا للدراسات الصادرة عن المختبرات، وقد يلجؤون إلى وضع خوازيق بعمق معين ووفق اشتراطات معينة وإجراء تجارب عليها.
بينما توضح د. إيناس أحمد، منسقة التواصل الاجتماعي بالاتحاد الدولي للعلوم الجيولوجية، إلى زاوية ثالثة، أنه يجب عمل دراسة تقييم للأثر البيئي قبل البناء في المناطق الساحلية، لمعرفة مدى قدرة التربة على التحمل لتحديد عدد الطوابق المناسب للمبنى والعمر الافتراضي للبناء، والعوامل البيئية التي ستؤثر عليه، وتجعله بحاجة إلى الترميم، مشيرة إلى أن المباني القريبة من البحر تتعرض للعوامل البحرية المسببة للتآكل وتحتاج إلى الصيانة، لأن الماء المالح القريب من المباني يحمل نسبة مخاطرة عليها
وتضيف الجيولوجية، أن وجود مياه جوفية تحت سطح التربة يتطلب البناء وفق اشتراطات معينة على طبقات صخرية معينة، طبقًا لدراسة تقييم الأثر البيئي، ومدى قرب المياه من سطح التربة، معتبرة أن المباني القديمة في الثلاثينات والاربعينات اعتمد بناءها على قوالب طوب ضخمة وأعمدة، مما جعلها أكثر صلابة من المباني الحديثة المبنية بالطوب الأحمر ونظام الحوائط.
نوصي للقراءة: مضاعفات صحّيّة.. كيف يعاني سكّان شرق القاهرة من الانبعاثات
تهديد البنية التحتية
يؤكد المحامي المتخصص في قضايا البيئة، أحمد الصعيدي، رئيس مجلس أمناء المؤسسة المصرية للحقوق البيئية، إلى زاوية ثالثة، أن هناك كارثة تحدث في محافظة الإسكندرية، تعكس عدم الاهتمام الرسمي بالتقارير العلمية التي تحذر من الكوارث البيئية التي تهدد المدينة ومدن أخرى مطلة على البحر المتوسط نتيجة ارتفاع منسوب مياه البحر بسبب الاحتباس الحراري، الذي يهدد البنية التحتية وسيؤثر بالسلب على الاقتصاد المصري، إذ يتواصل منح تراخيص البناء للمباني الجديدة والمنشآت الحكومية واعطاء التراخيص لافتتاح المطاعم والكافيتريات المطلة على البحر، دون مراعاة لأهمية التكيف مع التغيرات البيئية، بالتزامن مع تداعي الحالة الإنشائية لكثير من المباني القديمة في الإسكندرية.
ويوضح الصعيدي أن هناك نقاط تآكل للسواحل في الساحل الشمالي وعند أبو قير والساحل الشمالي، وأن مصر حصلت على تمويلات مناخية لحل المشكلة، لافتًا إلى أنه سبق صدور استراتيجية للتكيف مع التغيرات المناخية في مصر عام 2011، كانت قد دعت إلى تضمين التكيف مع التغيرات المناخية في دراسات الأثر البيئي للمشروعات التي تقام في الساحل الشمالي، إلا أنه لم يتم الالتزام بذلك، مستشهدًا بتجربة اليونان التي أوقفت تراخيص البناء على السواحل وقامت بإخلاء العقارات المطلة على البحر من سكانها لحمايتهم من مخاطر انهيار البنية التحتية نتيجة ارتفاع منسوب مياه البحر.
نوصي للقراءة: مضاعفات صحّيّة.. كيف يعاني سكّان شرق القاهرة من الانبعاثات
تدخلات برلمانية وتحركات حكومية
في إبريل 2023، تقدم البرلماني أيمن محسب، عضو مجلس النواب، بطلب إحاطة موجه إلى رئيس مجلس الوزراء ووزير التنمية المحلية، بشأن انهيار عقار الورديان غرب الإسكندرية، والذي أسفر عن وفاة 6 مواطنين وإصابة 5 وفشل الحكومة في التعامل مع ملف المباني الآيلة للسقوط، مُحذّرًا من أن مسلسل انهيار العقارات الآيلة للسقوط لن ينتهي.
وكشف النائب، أن التقديرات تذهب إلى أن عدد العقارات الخطرة منها القديمة والآيلة للسقوط في الإسكندرية وحدها، تُقدّر بأكثر من 6 آلاف عقار مخالف و160 عقارًا مائلًا بالإضافة إلي العقارات المخالفة والصادر لها 133 ألف قرار إزالة، وأن عدد قرارات الإزالة بلغ خلال السنوات الماضية أكثر من 5 آلاف قرار.
وفي فبراير 2023، تقدم النائب البرلماني محمود عصام، عضو مجلس النواب عن محافظة الإسكندرية، بطلب إحاطة لرئيس مجلس الوزراء ووزيري التنمية المحلية والبيئة بشأن الهبوط الأرضي بكورنيش سيدي بشر بالإسكندرية، داعيًا إلى اتخاذ إجراءات حاسمة لحماية الشواطئ من ظاهرة النحر البحري.
وأوضح النائب، أن المحافظة شهدت وقتئذٍ، موجة جديدة من الطقس السيئ، تسببت في وقوع شرخ بأرضية الكورنيش خاصة فى منطقة سيدي بشر، تبعه تهدم جزء من الكورنيش وتهدم الأرضية، وتحديدا بشاطئ إدوارد خراط بسيدي بشر، حيث هبط أرضيا في البلازا الخاصة بالشاطئ، بالإضافة إلى ميل سور الكورنيش وحدوث انشقاق طولي في الرصيف، قُدّر بـ20 مترًا.
وفي سبتمبر 2024 دعت النائبة إيرين سعيد، عضو مجلس النواب، إلى الاطلاع بشكل موسع على ملف العقارات الآيلة للسقوط، واتخاذ بعض الإجراءات القوية للتصدي للأزمات التي قد تحدث بسبب سقوط بعض العقارات، لافتة إلى أن هناك 5 عقارات سقطت خلال شهر سبتمبر وحده، ولا يوجد إجراء إلا البحث عن الجثث والمصابين، ولا توجد أي خطط تنفيذية لمواجهة هذا الملف.
وسبق أن أعلنت وزارة الموارد المائية في مصر، عن تنفيذها لمشروع نقل الرمال من منطقة الدلتا البحرية لتغذية مناطق النحر على الشواطئ، وتنفيذ أعمالًا لحماية الشواطئ بطول 210 كيلومترات، وإنشاء حائطًا بحريًا بطول 835 مترًا في الإسكندرية، باستخدام كتل خرسانية وأحجار، فيما كشفت وزارة التخطيط والتعاون الدولي، عن تنفيذ مشروع لتعزيز التكيف مع آثار التغيرات المناخية على السواحل الشمالية ودلتا نهر النيل، بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، لمواجهة ارتفاع منسوب البحر والظواهر الجوية الحادة، في الساحل الشمالي ودلتا النيل.
نوصي للقراءة: كارثة بيئية متجددة: مصنع سُكّر يُهدّد صحّة سكان قرية الفواريقة
حلول مقترحة
تقترح الدراسة العلمية، المنشورة في فبراير المنقضي بمجلة Earth’s Future، – ضمن تعاون علمي بين باحثين من مصر وألمانيا والولايات المتحدة وهولندا وتونس -، دمج تقنيات “الدفاع الناعم”، والتي تعتمد على البنية التحتية الخضراء والتصاميم الساحلية الصديقة للبيئة، لتعزيز الحماية ضد التغيرات المناخية، وتشمل هذه الحلول إنشاء شواطئ حية وكاسرات أمواج طبيعية للحد من تآكل السواحل، تصميم حدائق مطرية ومناطق رطبة مُنشأة لإدارة الفيضانات والحد من تسرب مياه البحر، تطوير شبكة شوارع خضراء تضم نباتات مقاومة للملوحة لامتصاص المياه وتخفيف تأثير المد العالي، ربط المناطق الساحلية بشبكة مياه متكاملة لتعزيز قدرة السكان على التكيف مع التغيرات المناخية.
كما توصي الدراسة على المدى القصير، بتطبيق الحواجز الطبيعية في منطقة غرب الإسكندرية، لمواجهة التراجع السريع لخط الساحل ومنع المزيد من انهيارات المباني، وتعديل البنية التحتية الحالية في أحياء الجمرك وشرق ووسط المدينة، على المدى الطويل، لتتكيف مع ارتفاع مستوى سطح البحر، وتنفيذ استراتيجية “الانسحاب المُدار” في منطقة العامرية، حيث يتم دمج الحلول الطبيعية لضمان الاستعداد للتغيرات البيئية المستقبلية، داعية إلى التعاون بين دول البحر المتوسط وتنسيق الجهود وتبادل الخبرات بين هذه الدول لوضع استراتيجيات مشتركة للتكيف مع هذه التغيرات والتخفيف من آثارها.
ورغم الجهود الحكومية المبذولة لمواجهة ظاهرة النحر البحري وتآكل الشواطئ، إلا أن الخطر لا يزال يهدد المباني والبنية التحتية محافظة الإسكندرية، في ظل التغيرات البيئية والمناخية التي تتسبب في ارتفاع منسوب مياه سطح البحر وارتفاع منسوب المياه الجوفية من ناحية، وتداعي الحالة الإنشائية لكثير من العقارات السكنية المخالفة والعقارات القديمة، وسط إهمال وتقصير من المحليات، مما يهدد حياة أعداد كبيرة من السكان، ما لم تسارع السلطات إلى اتخاذ إجراءات عاجلة والأخذ بتوصيات المختصين والدراسات العلمية الحديثة.